الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
364 [ ص: 160 ] ( 10 ) باب التشديد في أن يمر أحد بين يدي المصلي .

335 - ذكر فيه مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله ; فإنما هو شيطان .


[ ص: 161 ] 8400 - قد ذكرنا عبد الرحمن بن أبي سعيد في التمهيد ، وذكرنا أباه في الصحابة .

8401 - وعن ابن وهب في هذا الحديث إسناد آخر عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري .

8402 - وهو محفوظ أيضا لعطاء ، عن أبي سعيد ، وعن أبي سعيد في هذا طرق قد ذكرتها وبعضها في التمهيد . [ ص: 162 ] 8403 - وفي هذا الحديث كراهية المرور بين يدي المصلي إذا كان وحده وصلى إلى غير سترة ، وكذلك حكم الإمام إذا صلى إلى غير سترة .

8404 - وأشد من ذلك أن يدخل المار بين يدي المصلي وبين سترته . ومن السنة أن يدنو المصلي من سترته .

8405 - هذا كله في الإمام وفي المنفرد ، فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه ، كما أن الإمام والمنفرد لا يضر واحدا منهما من مر من وراء سترته ; لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه . وقد قيل : الإمام نفسه سترة لمن خلفه .

8406 - والدليل على أن ما قلناه كما وصفنا في الإمام والمنفرد دون المأمومين قوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا كان أحدكم يصلي " ومعناه عند العلماء إذا كان أحدهم يصلي وحده لحديث ابن عباس . فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان [ ص: 163 ] ترتع ، فدخلت الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحد .

8407 - وإذا كان الإمام أو المنفرد مصليا إلى سترة ، فليس عليه أن يدفع من يمر من وراء سترته .

8408 - هذا كله لا خلاف فيه بين العلماء على ما رسمته .

8409 - ومما يوضح لك أن الإمام سترة لمن خلفه حديث هشام بن الغازي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر أو العصر ، فجاءت بهمة تمر بين يديه ، فجعل يداريها حتى رأيته ألصق منكبه بالجدار فمرت خلفه .

8410 - وقد ذكرنا إسناده في التمهيد ، وذكرناه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

8411 - وفي هذا الحديث دليل على جواز العمل في الصلاة .

8412 - وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز ( منه إلا ) القليل الذي لا يخرج المصلي عن عمل صلاته إلى غيرها ، ولا يشتغل به عنها نحو : حك الجسد حكا غير طويل ( وأخذ البرغوث ) ، وقتل العقرب بما خف من الضرب .

8413 - وقد أوضحنا هذا المعنى في مواضع من هذا الكتاب .

8414 - وأما قوله في الحديث : " فإن أبى فليقاتله " فالمقاتلة هنا : المدافعة ، وأحسبه كلاما خرج على التغليط ، ولكل شيء حد .

8415 - وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف ، ولا يبلغ به مبلغا يفسد به على نفسه صلاته .

8416 - وفي إجماعهم على هذا ما يبين لك المراد بمعنى ( الحديث

[ ص: 164 ] 8417 - فإن دافعه ) مدافعة لا يقصد بها إلا قتله فكان فيها تلف نفسه ، كان عليه ديته كاملة في ماله ، وقد قيل : على عاقلته ، وقيل : هي هدر على حسب ثنية العاض .

8418 - وهذا كله يدل على أن فيه القود ، لا خلاف في ذلك ، والله أعلم .

8419 - وقد أجمعوا أيضا أنه إذا مر بين يديه ولم يدركه من مقامه الذي يقوم فيه أنه ، لا يمشي إليه ; كي لا يصير المصلي مثله .

8420 - وهذا كله يبين لك ما ادعيناه في معنى الحديث ، وأنه غير ظاهره .

8421 - وقال ابن القاسم عن مالك : إذا جاز المار بين يدي المصلي ، فلا يرده .

8422 - قال : وكذلك لا يرده وهو ساجد .

8423 - وقال أشهب : إذا مر من قدامه فليرده بإشارة ولا يمش إليه ; لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه .

8424 - قال : فإن مشى إليه ورده ، لم تفسد بذلك صلاته .

8425 - قال أبو عمر : إن كان شيئا كثيرا فسدت بذلك صلاته ، وإنما ينبغي له أن يدرأه درأ لا يشتغل به عن صلاته ، فإن غلبه فليدعه يبوء بإثمه ; لأن الأصل في مروره أنه لا يقطع المار صلاة المصلي ، والكراهة للمار أكثر منها للمصلي .

8426 - ذكر ابن أبي شيبة ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة بن [ ص: 165 ] عمير ، عن الأسود قال : قال عبد الله : من استطاع منكم أن لا يمر بين يديه وهو يصلي فليفعل ; فإن المار أبغض من الممر عليه . 8427 - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : لا يقطع الصلاة شيء .

8428 - رواه أبو سعيد الخدري ، وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

8429 - وقد ذكرنا ذلك في التمهيد .

8430 - وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، عن أبي خالد الأحمر ، وابن فضيل ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : إن مر بين يديك فلا ترده .

8431 - قال أبو عمر : قد كان أبو سعيد الخدري يشدد في هذا ، وهو راوية الحديث طلبا لاستعمال ظاهره ، والله أعلم .

8432 - ذكر أبو بكر ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، قال : كان أبو سعيد الخدري قائما يصلي ، فجاء عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين يديه ، فمنعه ، فأبى أن لا يمضي ، فدفعه أبو سعيد فطرحه ، فقيل له : تصنع هذا بعبد الرحمن ؟ فقال : والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره لأخذت .

8433 - قال : وحدثنا أبو أسامة ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، قال : [ ص: 166 ] سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز - ومر رجل بين يديه وهو يصلي ، فجبذه حتى كاد يخرق ثيابه .

8434 - وهذا يحتمل أن يكون المار عاتيا جبارا لا يريد الرجوع .

8435 - وقوله : كاد يخرق ثيابه يدل على أنه لم يخرق ، ولكل شيء وجه .

8436 - والذي عليه جمهور العلماء ما وصفت لك ، وبالله التوفيق .

8437 - وقد روينا عن الثوري ، قال : إنه ليمر بين يدي الرجل الضعيف فلا أكابره ، ويمر بين يدي المتجبر فلا أدعه .

8438 - ذكر ابن أبي حاتم ، قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، قال : حدثنا أبو خالد ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول : إنه ليمر بين يدي المسكين وأنا أصلي فأدعه ، فإذا مر أحد وعليه ثياب يتمشى بطرا لم أدعه .

8439 - وهذا يدل على أنه ليس بواجب عنده دفع المار وإنما هو شيء أباحته السنة للمصلي أن يفعله . والكراهة كلها إنما هي للمار دون المصلي .

8440 - وذكر أبو داود من حديث أبي حاجب سليمان بن عبد الملك ، قال : رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي ، فذهبت أمر بين يديه فردني ، ثم قال : حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من استطاع أن لا يحول بينه وبين قبلته حاجز فليفعل .

8441 - وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين [ ص: 167 ] عن أبي العالية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : مر رجل من بني مروان بين يدي في الصلاة فدفعته ثلاث مرات ، فشكاني إلى مروان ، فذكر ذلك لي ، فقلت : لو أبى لأخذت شعره .

8442 - قال : وأخبرني ابن جريج ، قال : سمعت سليمان بن موسى يحدث عطاء ، قال : أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد وهو يصلي وعليه حلة له ، ومروان أمير بالمدينة فرده فكأنه أبى فلهزه في صدره ، فذهب الليثي إلى أبيه فأخبره ، فدعا مروان أبا سعيد وهو يظن أنما لهزه من أجل حلته ، قال : فذكر ذلك له ، فقال : نعم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اردده فإن أبى فجاهده .

8443 - وذكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن علية . قال : قلت لسعيد بن جبير : أدع أحدا يمر بين يدي ؟ قال : لا ، قلت : فإن أبى ، قال : فما تصنع ؟ قلت : بلغني أن ابن عمر كان لا يدع أحدا يمر بين يديه ، قال : إن ذهبت تصنع صنيع ابن عمر دق أنفك .

8444 - وقوله : فإنما هو شيطان يعني : قد بعد في فعله من الخير ، من قول ( العرب ) شطون أي بعيدة .

8445 - وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى رجلا يتبع حمامة فقال : شيطان [ ص: 168 ] يتبع شيطانة ; لأنه كان نهى عن اللعب بالحمام وتطييرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية