الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
397 [ ص: 251 ] ( 22 ) باب ما جاء في الصلاة على النبي .

370 - ذكر فيه مالك حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته . . . . . الحديث .

ذكره عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرو بن سليم الزرقي ، أنه قال : أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ، الحديث .

371 - وحديث أبي مسعود الأنصاري واسمه عقبة بن [ ص: 252 ] عمرو بمعناه إلا أنه قال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد .

ذكره أيضا عن نعيم بن عبد الله المجمر ، عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري أنه أخبره عن أبي مسعود الأنصاري . . . . . فذكر الحديث .


8857 - وقد ذكرنا في التمهيد الرواية عن أبي مسعود أنه قال : لما [ ص: 253 ] نزلت " إن الله وملائكته يصلون على النبي " [ الأحزاب : 56 ] قالوا يا رسول الله : قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة . . . . . . . . وذكر الحديث .

8858 - وفي هذين الحديثين من الفقه : أنه يلزم من ورد عليه خبر محتمل لوجه أو لوجهين في الكتاب أو السنة ، ألا يقطع منهما على وجه حتى يقف على المراد إن وجد إلى ذلك سبيلا .

8859 - ألا ترى إلى قول سعد بن عبادة وغيره .

أمرنا الله أن نصلي عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ .

8860 - وهذا - والله أعلم - لما يحتمله لفظ الصلاة من المعاني . وقد بيناها فيما تقدم من هذا الكتاب .

8861 - وقد اختلف الناس فيما لم يرد به التوقيف ، هل العموم أولى بذلك أم الخصوص في أقل ما يقع عليه الاسم ؟ .

8862 - وذلك سبق في كتاب " الأصول " والحمد لله .

8863 - وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند ، ويبين قول الله تعالى " إن الله وملائكته يصلون على النبي " [ الأحزاب : 56 ] الآية ، فبين لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف الصلاة عليه ، وبين لهم في التشهد كيف السلام عليه ، وهو قوله عليه السلام : " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " . وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " والسلام كما قد علمتم " .

[ ص: 254 ] 8864 - ويشهد لما قلنا : قول ابن عباس وابن مسعود : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن .

8865 - وقال ابن عمر : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد .

8866 - وفي بعض الروايات عنه : على المنبر ، كما يعلم المكتب الولدان .

8867 - وذكر أبو بكر ، قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد بن الغلام المتوكل ، قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : كنا لا نكتب شيئا إلا القرآن والتشهد .

8868 - وقد قيل : إنه التسليم من الصلاة الذي هو تحليلها .

[ ص: 255 ] 8869 - وقال بعض أهل العلم : إن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود ومن روى مثل روايته : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " كلام مجمل محتمل للتأويل يفسره قوله في حديث أبي حميد الساعدي ومن تابعه : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ; لأن لفظ الآل محتمل لوجوه من الأهل ، ومنها الأتباع كما قال تعالى : " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " [ غافر : 46 ] أي أتباعه ، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الآل هنا الأهل ، وأن ما أجمله مرة فسره أخرى ، وأوقف على أن الأهل أزواجه وذريته ، ويدخل في قوله آل إبراهيم إبراهيم ، وفي آل محمد محمدا - صلى الله عليهما - ، كأنه قال : إبراهيم وآله . ألا ترى إلى قوله تعالى : " أدخلوا آل فرعون " يدخل فيه فرعون .

8870 - هذا ما يوحيه تهذيب الأحاديث وترتيبها ، والله ولي التوفيق لا شريك له .

8871 - وأجمع العلماء على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مؤمن ; لقوله - عز وجل - " ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " [ الأحزاب : 56 ] [ ص: 256 ] 8872 - ثم اختلفوا في كيفية ذلك وموضعه :

8873 - فذهب مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة ، إلى أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض في الجملة بعقد الإيمان ، ولا يتعين في الصلاة ولا في وقت من الأوقات .

8874 - ومن قول بعضهم : أن من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة في عمره فقد سقط فرض ذلك عنه ، وبقي مندوبا إليه من عمره بمقدار ما يمكنه .

8875 - وروي عن مالك ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، أنهم قالوا : الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحب في التشهد الآخر ، مندوب إليها ، وتاركها مسيء ومع ذلك فصلاة من لم يفعل ذلك تامة .

8876 - حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا ابن أبي عمر ، قال : حدثنا سفيان ، عن زائدة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يرون حين فرض الله الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " فكانوا يرون أن التشهد كاف من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - .

8877 - وقال الشافعي : إذا لم يصل المصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الآخر بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة .

8878 - قال : وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجزئه .

8879 - وهذا قول حكاه عنه حرملة ، لا يكاد يؤخذ عنه إلا من رواية حرملة ، وغير حرملة ، إنما يروى عنه أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض في كل صلاة وموضعها التشهد الآخر قبل التسليم ، ولم يذكروا إعادة فيمن وضعها قبل التشهد في الجلسة [ ص: 257 ] الآخرة إلا أن أصحابه قد تقلدوا رواية حرملة ، ومالوا إليها ، وناظروا عليها .

8880 - ومن حجة من قال : إن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست من فرائض الصلاة ، حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده فعلمه التشهد إلى : وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وقال له : " فإذا قلت ذلك فقد قضيت الصلاة ، فإن شئت أن تقوم وإن شئت أن تقعد " .

8881 - وقد ذكرناه بإسناده وتمام ألفاظه في التمهيد .

8882 - وليس في هذا الحديث ذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد ، وكذلك سائر الآثار عن ابن مسعود وغيره في التشهد ، ليس في شيء منها ذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - . 8883 - وفي حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ثم يدعو بما شاء .

8884 - ولم يأمر بإعادة ، ولو كان ذلك فرضا لأمره بالإعادة كما فعل بالذي لم يكمل ركوعه ولا سجوده .

8885 - وحجة الشافعي ومن قال بقوله في هذه المسألة أن الله - عز وجل - أمرنا بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن نسلم عليه تسليما ، ثم جاء الأمر منه عليه السلام [ ص: 258 ] بالتشهد فعلمهم فيه كيف يسلمون عليه تسليما بقوله : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله .

8886 - وكان يعلم أصحابه التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن ، وقال لهم : إنه يقال في الصلاة لا في غيرها .

8887 - وقالوا له : قد علمنا السلام عليك - في التشهد يعنون - فكيف الصلاة عليك ؟ .

8888 - فعلمهم الصلاة عليه ، وقال لهم : السلام كما قد علمتم ، فدلهم على أن ذلك قرين التشهد في الصلاة .

8889 - قالوا : وقد وجدنا الأمة بأجمعها تفعل الأمرين جميعا في صلاتها ، فلا يجوز أن يفرق بينها ولا تتم الصلاة إلا بهما ، وأراه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وسائر المسلمين ، قولا وعملا .

8890 - قالوا : وليس في حديث ابن مسعود حجة ; لأنه حديث خرج على معنى في التشهد كانوا يقولون ، فقال لهم : لا تقولوا ، وقولوا كذا .

8891 - ومعنى قوله فيه : فإذا قلت كذلك فقد تمت صلاتك ، يعني إذا ضم إلى ذلك القول غيره من التسليم الذي به يسد الخلل منها ، وكذلك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - .

8892 - وهذا مثل قوله - عليه السلام - : " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم " يعني : إذا ضم إليهم من سمي معهم في القرآن .

[ ص: 259 ] 8893 - وكذلك حديث أبي هريرة ، ورفاعة بن رافع ، في الذي لم يكمل [ ص: 260 ] صلاته فعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له : " إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك " يعني : إذا ضم إليه فيها ما لا بد منه فيها من القراءة والتسليم ، وما أشبه ذلك .

8894 - وإذا جاز لمستدل أن يستدل على ظواهر أحاديث التشهد وما أشبهها بحديث : " تحليلها التسليم " ، جاز لغيره أن يستدل على إيجاب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بما وصفنا وببعضه ، وبالله التوفيق .

8895 - قالوا : وأبو مسعود هو الذي يروي الحديث في هذا الباب ، وهو القائل : ما أرى أن صلاة لي تمت إذا لم أصل فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 261 ] 8896 - وقد ذكرنا إسناده في التمهيد ، وذكرنا حديث سهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا صلاة لمن لم يصل فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

8897 - روى حديث أبي مسعود جابر الجعفي .

8898 - وجابر الجعفي وإن كان قد طعن عليه قوم منهم ابن عيينة ، فقد أثنى عليه سفيان وشعبة وغيرهما ، ووصفوا بالحفظ والإتقان لما روى .

8899 - ومن حجة الشافعي أيضا ما رواه ابن عيينة ، عن منصور ، قال : لما أنزل الله تعالى " إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " [ الأحزاب : 56 ] فافترض الله على عباده الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتسليم ، علمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التشهد : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله .

8900 - هذا كله ما احتج به الشافعي وأصحابه لمذهبهم في إيجاب الصلاة على النبي - عليه السلام - في الصلاة .

8901 - قال أبو عمر : الأصل أن الفرائض لا تثبت إلا بدليل لا معارض له ، أو بإجماع لا مخالف فيه ، وذلك معدوم من هذه المسألة ، إلا أني رأيت الفقهاء وأصحابهم إذا قام لأحدهم دليل من كتاب أو سنة ، أوجبوا به واستقصوا في موضع الخلاف .

8902 - وحجة أصحاب الشافعي فيها ضعيفة ، ولست أوجب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضا في كل صلاة ، ولكن لا أحب لأحد تركها ، وبالله التوفيق .

[ ص: 262 ] 8903 - قال أبو عمر : رويت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق متواترة بألفاظ متقاربة ليس في شيء منها : وارحم محمدا وآل محمد ، وإنما فيها كلها لفظ الصلاة والبركة لا غير ، قوله : اللهم صل على محمد ، وليس في شيء منها وارحم محمدا ، فلا أحب أحدا أن يقوله ; لأن الصلاة وإن كانت من الله الرحمة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص بهذا اللفظ ، وذلك والله أعلم من معنى قول الله - عز وجل - " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " [ النور : 63 ] .

8904 - ولهذا أنكر العلماء على يحيى بن يحيى ومن تابعه في الرواية عن مالك في " الموطأ " .

التالي السابق


الخدمات العلمية