الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
407 380 - وأما حديثه عن نافع ، أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلاما ، فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له : إذا سلم على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم وليشر [ ص: 292 ] بيده .


9054 - وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ولا سنة أن يسلم على المصلي .

9055 - واختلفوا هل يسلم عليه في المسجد أو غيره أم لا ؟ .

9056 - فذهب منهم ذاهبون إلى أنه لا يجوز أن يسلم عليه ; لأنه في شغل عن رد السلام ، وإنما السلام على من يمكنه رده .

9057 - واحتجوا بحديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم عليه والنبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 293 ] يصلي فلم يرد عليه ، فلما سلم قال : إن في الصلاة شغلا .

9058 - وقال آخرون : جائز أن يسلم على المصلي ويرد إشارة لا كلاما ; لحديث ابن عمر عن صهيب أنه حدثه قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد بني عمرو بن عوف ، فكان الأنصار يدخلون وهو يصلي فيسلمون فيرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إشارة بيده فكان ابن عمر يفتي بهذا .

9059 - رواه مالك ، وأيوب ، وابن جريج ، وعبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن صهيب بمعنى واحد كما ذكره مالك .

9060 - ورواه الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر مثله .

9061 - وقد تأول بعض أهل العلم في حديث صهيب هذا أن إشارته - صلى الله عليه وسلم - كانت إليهم ألا تفعلوا وهذا وإن كان محتملا ففيه بعد ، والأول أظهر .

9062 - وقد روى عبد الرزاق وغيره عن ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن [ ص: 294 ] عطاء ، قال : رأيت موسى بن عبد الله بن جميل الجمحي سلم على ابن عباس ، وابن عباس يصلي في الكعبة فأخذ ابن عباس بيده .

9063 - وهذا يحتمل التأويل أيضا .

9064 - وجاء عن ابن مسعود في هذا الباب مثل مذهب ابن عمر ، أنه كان إذا سلم عليه وهو يصلي أشار بيده .

9065 - وأما جابر بن عبد الله فذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال : لو مررت بقوم يصلون ما سلمت عليهم .

9066 - وعن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : أنا أكره أن أسلم عليهم .

9066 م - وعن الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : إذا سلم عليه في الصلاة فلا ترد ، فإذا انصرفت فإن كان قريبا فرد ، وإن كان بعيدا قد ذهب فأتبعه السلام .

9067 - ولم يختلف الفقهاء أن من رد السلام وهو يصلي كلاما مفهوما مسموعا أنه قد أفسد صلاته .

9068 - وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم ، وأحمد ، وإسحاق ، وجمهور أهل العلم .

9069 - وقد روي عن طائفة من التابعين منهم : الحسن ، وقتادة أنهم أجازوا أن يرد السلام كلاما وهو يصلي .

9070 - وقال من ذهب مذهبهم من المتأخرين السالكين سبيل الشذوذ : إن الكلام المنهي عنه في الصلاة هو ما لا يحتاج إليه في الصلاة ، وأما رد السلام فهو [ ص: 295 ] فرض على من سلم عليه في الصلاة وغيرها ، فمن فعل ما يجب عليه فعله لم تفسد صلاته .

9071 - وقد أجاز ابن القاسم وأكثر أصحابنا الكلام في شأن إصلاح الصلاة .

9072 - قال أبو عمر : الحجة في هذا الباب حديث زيد بن أرقم : " كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : " وقوموا لله قانتين " [ البقرة : 238 ] فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام " .

9073 - وحديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تتكلموا في الصلاة " .

9074 - فلا يجوز الكلام في الصلاة ; لأنه أمر كان ونسخ ، والمنسوخ لا يجوز العمل به .

9075 - وأما حديث هذا الباب فظاهره أن ابن عمر لم يأمر الرجل بإعادة ، وقال له : إذا سلم على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم وليشر بيده .

9076 - ويحتمل أن يكون مذهب ابن عمر في هذا مذهب الحسن ومن قال بقوله .

[ ص: 296 ] 9077 - ويحتمل أن يكون أمره بالإعادة فلم ينقل ذلك ; لعلم المخاطب بوجوبه ، فكأنه قد قال له : فلا تتكلم فمن تكلم فقد أفسد على نفسه صلاته ، وقد أعلمتك بما عليه مذاهب أهل الفتوى من أئمة الأمصار ، وهو اللباب من العلم والاختيار ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية