الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
514 30 - مالك ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس .


[ ص: 380 ] 1037 - قال أبو عمر : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس من حديث عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وسعد بن أبي وقاص ، ومعاذ ابن عفراء ، وغيرهم ، وهي أحاديث صحاح لا مدفع فيها ، إلا أن العلماء اختلفوا في تأويلها وفي خصوصها وعمومها ، واختلف العلماء في هذا الباب اختلافا كثيرا ، لاختلاف الآثار فيه .

1038 - فقال منهم قائلون : لا بأس بالتطوع بعد الصبح وبعد العصر ; لأن النهي إنما قصد به إلى ترك الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وذكروا مثل حديث الصنابحي وشبهه .

1039 - قالوا : فالنهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر هذا معناه ؛ لإجماع المسلمين على الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر ، إذا لم يكن عند طلوع الشمس ولا عند غروبها .

1040 - قالوا : وإنما خرج النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر على قطع الذريعة ; لأنه لو أبيحت الصلاة النافلة بعد الصبح وبعد العصر لم يؤمن التمادي فيها إلى حين طلوع الشمس وغروبها .

[ ص: 381 ] 1041 - هذا مذهب عبد الله بن عمر ، وقال به جماعة .

1042 - ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن نافع أنه سمع ابن عمر يقول : أما أنا فلا أنهى أحدا يصلي من ليل أو نهار أي ساعة شاء غير ألا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها .

1043 - وهو قول عطاء ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وابن جريج .

1044 - وروي عن ابن مسعود نحوه .

1045 - ومذهب عائشة في ذلك كمذهب ابن عمر .

1046 - وروى ابن وهب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه عن عائشة ، قالت : أوهم ابن عمر إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة أن يتحرى بها طلوع الشمس وغروبها .

[ ص: 382 ] 1047 - أخبرنا عبد الله بن أسد ، وعبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا إبراهيم بن جامع قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا عفان بن مسلم ، ومحمد بن أبي نعيم قال : حدثنا ابن وهب ، عن خالد ، فذكره .

1048 - ومن حجة من قال بهذا القول حديث علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية " .

1049 - وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد .

1050 - وهو مذهب زيد بن خالد الجهني أيضا ; لأنه رآه عمر بن الخطاب يركع بعد العصر ركعتين ، فمشى إليه وضربه بالدرة ، فقال له : يا أمير المؤمنين اضرب ، فوالله لا أدعهما بعد أن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما ، فقال له عمر : يا زيد ، لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما .

[ ص: 383 ] 1051 - وقد ذكرنا هذا الخبر وسائر أخبار هذا الباب في " التمهيد " .

1052 - وقد قيل : إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بألا يتطوع بعدهما ، ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد الشروق والغروب بالنهي عن الصلاة فيهما .

1053 - ألا ترى أنه جائز لمن جاء المسجد بعد صلاة العصر وهو لم يصل العصر أن يتطوع بركعتين وبأكثر قبل أن يصلي العصر ، ثم يصلي العصر والشمس بيضاء نقية ، ولا يجوز ذلك في تلك الساعة لمن قد صلى العصر والصبح .

1054 - وقال آخرون : أما الصلاة بعد الصبح إذا كانت نافلة أو سنة ولم تكن قضاء فرض فلا تجوز ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس نهيا مطلقا ، إلا أنه موقوف على كل ما عدا الفرض من الصلاة ; لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، أو من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك ) يعني : الوقت .

1055 - وممن قال بهذا مالك بن أنس ، وأصحابه ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

1056 - قال أحمد وإسحاق : لا يصلى بعد العصر إلا صلاة فائتة ، أو صلاة على جنازة .

[ ص: 384 ] 1057 - ومذهب مالك في ذلك هو مذهب عمر بن الخطاب ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وهم رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وهم أعلم بما رووا .

1058 - وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدرة ، ولا يكون ذلك إلا عن بصيرة .

1059 - وكذلك ابن عباس ، روى الحديث في ذلك عن عمر ، عن النبي - عليه السلام - قال به على ظاهره وعمومه .

1060 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد ، حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس قال : حدثني رجال مرضيون منهم عمر - وأرضاهم عندي عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس " .

1061 - وهذا الحديث هو أثبت الأحاديث ، رواه عن قتادة جماعة ، منهم شعبة ، وسعيد بن أبي عروبة ، وهشام الدستوائي ، وأبان العطار ، [ ص: 385 ] وهمام بن يحيى ، ومنصور بن زاذان ، ولم يختلفوا فيه ، وإليه ذهب ابن عباس : أنه سأله عن الركعتين بعد العصر فنهاه عنهما فقال : لا أدعهما فقال ابن عباس : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " ( الأحزاب : 36 ) .

1062 - وقال الشافعي : إنما المعنى في نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر - التطوع المبتدأ أو النافلة ، وأما الصلوات المفروضات والمسنونات ، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليه من النوافل فلا .

1063 - واحتج أيضا بحديث قيس : حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري : رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتي الفجر بعد السلام من الصبح فسكت عنه ، إذ أخبره أنهما ركعتا الفجر .

[ ص: 386 ] 1064 - وقد روي من حديث هشام بن سعد مثل ذلك .

1065 - واحتج أيضا بحديث أم سلمة ، وعائشة في الركعتين اللتين قضاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال : " يا بني عبد مناف ، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار " .

[ ص: 387 ] 1066 - وأما أبو ثور فقال : لا يصلي أحد تطوعا بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس إلى أن تزول ، ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس إلا صلاة فائتة من الفرائض ، أو صلاة على جنازة ، أو على أثر طواف ، أو صلاة لبعض الآيات ، أو ما يلزم من الصلوات .

1067 - واحتج بكثير من آثار هذا الباب ، فيها حديث جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا بني عبد مناف " الحديث .

1068 - وقال آخرون : أما التطوع بعد العصر فجائز لحديث عائشة : " ما ترك رسول الله ركعتين بعد العصر في بيتي قط " .

1069 - وأما التطوع بعد الصبح فلا ; لأن الآثار غير ثابتة في ذلك .

1070 - وحديث عائشة صحيح ، والأصل ألا يعمل من عمل البر إلا بدليل لا معارض له ، وقد تعارضت الآثار في الصلاة بعد العصر ، فواجب الرجوع إلى قوله : " وافعلوا الخير " ( الحج : 77 ) والصلاة فعل خير ، فلا يمنع من فعلها إلا بما لا تعارض له ، هذا قول داود بن علي .

1071 - وقال آخرون : لا يصلى عند طلوع الشمس ، ولا بعد الصبح ، ولا بعد العصر ، ولا عند الغروب ، ولا عند الاستواء شيء من الصلوات كلها إلا عصر اليوم .

1072 - فهذا قول أبي حنيفة وأصحابه على ما قدمنا عنهم .

[ ص: 388 ] 1073 - وقال مالك : من طاف بالبيت بعد العصر أخر ركعتي الطواف حتى تغرب الشمس ، وكذلك من طاف بعد الصبح لم يركعهما حتى تطلع الشمس .

1074 - وقال أبو حنيفة : يركعهما إلا عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها .

1075 - وبعض أصحاب مالك يرى الركوع للطواف بعد الصبح ، ولا يراه بعد العصر .

1076 - وهذا لا وجه له في النظر ، ولا يصح به أثر .

1077 - وحكم سجود التلاوة بعد الصبح والعصر عند الفقهاء كحكم الصلاة على أصولهم التي ذكرنا عنهم .

1078 - وأما السلف من الصحابة والتابعين ، فروينا عن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، والحسن ، والحسين ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير : أنهم كانوا يطوفون بعد العصر ، وبعضهم بعد الصبح أيضا ، ويصلون بإثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت .

1079 - وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود .

التالي السابق


الخدمات العلمية