الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
414 387 - وحديثه بعد في هذا الباب عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مروا أبا بكر فليصل للناس " فقالت عائشة : إن أبا بكر يا رسول الله ، إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، قال : " مروا أبا بكر فليصل للناس " قالت عائشة : فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، ففعلت حفصة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس " فقالت حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك [ ص: 324 ] خيرا .


9200 - ففيه من الفقه : أن القوم إذا اجتمعوا للصلاة فأحقهم وأولاهم بالإمامة فيها أفضلهم وأفقههم ; لأن أبا بكر قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بجماعة أصحابه .

9201 - ومعلوم أنه كان منهم من هو أقرأ منه ولا سيما أبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وابن مسعود ، وزيد .

9201 - فهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها .

[ ص: 325 ] 9203 - فقال مالك : يؤم القوم أعلمهم إذا كانت حالته حسنة ، وللمسن حق .

9204 - قيل له : فأكثرهم قرآنا ؟ 925 - قال : لا ، قد يقرأ القرآن من لا يكون فيه خير .

9206 - وقال الثوري : يؤمهم أقرؤهم ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن استووا ، فأسنهم .

[ ص: 326 ] 9207 - وقال الأوزاعي : يؤمهم أفقههم في دين الله .

9208 - وقال أبو حنيفة : يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة ، فإن استووا في العلم والقراءة فأكثرهم سنا ، فإن استووا في السن والقراءة والفقه فأورعهم .

9209 - وقال محمد بن الحسن وغيره : إنما قيل في الحديث أقرؤهم ; لأنهم أسلموا رجالا فتفقهوا فيما علموا من الكتاب والسنة ، وأما اليوم فيعلمون القرآن وهم صبيان لا فقه لهم .

9210 - وقد قال الليث بن سعد : يؤمهم أفضلهم وخيرهم ، ثم أقرؤهم ، ثم أسنهم إذا استووا .

9211 - وقال الشافعي : يؤمهم أقرأهم وأفقههم ، فإن لم يجتمع ذلك قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في صلاته ، وإن قدم أقرأهم إذا كان يعلم ما يلزم في الصلاة فحسن .

9212 - وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : رجلان : أحدهما أفضل من صاحبه ، والآخر أقرأ منه .

9213 - فقال : حديث أبي مسعود : يؤم القوم أقرؤهم .

9214 - ثم قال : ألا ترى أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع خيار أصحاب [ ص: 327 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عمرو أبو سلمة بن عبد الأسد فكان يؤمهم ; لأنه جمع القرآن .

9215 - فقلت له : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، هو خلاف حديث أبي مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : يؤم القوم أقرؤهم !

9216 - قال : إنما قوله - عليه السلام - مروا أبا بكر فليصل بالناس أراد الخلافة ، وكان لأبي بكر فضل بين على غيره ، وإنما الأمر في الإمامة إلى القراءة ، وأما قصة أبي بكر فإنما أراد بها الخلافة .

9217 - قال أبو عمر : معلوم أن الصلاة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت إليه لا إلى غيره ، وهو الإمام المقتدى به ، ولم يكن لأحد أن يتقدم إليها بحضرته ، [ ص: 328 ] فلما مرض واستخلف أبا بكر عليها والصحابة متوافرون ، ووجوه قريش ، وسائر المهاجرين ، وكبار الأنصار ، حضور ، وقال لهم : " مروا أبا بكر يصلي بالناس " استدلوا بذلك على أن أبا بكر كان أحق الناس بالخلافة بعده - صلى الله عليه وسلم - فارتضوا لإقامة دنياهم وأمانتهم من ارتضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لدينهم .

9218 - ولم يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - من أن يصرح بخلافة أبي بكر - رضي الله عنه - إلا أنه كان لا ينظر في دين الله بهواه ، ولا يشرع فيه إلا بما يوحى إليه ولم يوح إليه في الخلافة شيء .

9219 - وكان لا يتقدم بين يدي ربه في شيء إلا أنه كان يحب أن يكون أبو بكر الخليفة بعده ، فأراهم بتقديمه إياه إلى الصلاة موضع اختياره ، وأراد به .

9220 - فعرف المسلمون ذلك منه ، فبايعوا أبا بكر بعده فنفعهم الله به ، وبارك لهم فيه ، فقاتل أهل الردة ، وقام بأمر الله ، وعدل في الرعية ، وقسم بالتسوية ، وسار سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفاه الله - عز وجل - .

9221 - وقد رويت في هذا الباب آثار تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن أبا بكر الخليفة بعده ، ولكنه لم يؤمر بالاستخلاف ; لتكون شورى ، والله أعلم .

9222 - منها حديث حذيفة عنه - عليه السلام - أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر .

9223 - ومنها حديث جبير بن مطعم : أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته [ ص: 329 ] عن شيء فأمرها أن ترجع ، فقالت : يا رسول الله إن رجعت ولم أجدك - كأنها تعني الموت - قال : فائت أبا بكر .

9224 - وقال ابن مسعود : كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة لكلام قاله عمر بن الخطاب : أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ؟ قالوا : نعم . قال : فأيكم تطيب نفسه أن ينزعه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله ؟ قالوا : كلنا لا تطيب نفسه بذلك .

9225 - وقد ذكرنا هذه الآثار كلها بأسانيدها في التمهيد ، وذكرنا الحجة لخلافته وإمامته هناك من الكتاب والسنة .

9226 - واستوفينا القول في فضائله في كتاب الصحابة ، والحمد لله .

9227 - وأما قول عائشة : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، ففيه دليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها .

9228 - وذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن [ ص: 330 ] مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن أبيه ، قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي وبجوفه أزيز كأزيز المرجل ، يعني من البكاء .

9229 - والبكاء الذي لا يقطع الصلاة ما كان من خوف الله تعالى ، أو غلبه حزن لا يملكه ضعفا أو عبثا ، ولا فهم منه شيء من حروف الكلام .

9230 - وأما قوله : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، فإنه أراد النساء وأنهن يسعين أبدا إلى صرف الحق واتباع الهوى ، وأنهن لم يزلن فتنة يدعون إلى الباطل ويصدون عن الحق في الأغلب .

[ ص: 331 ] 9231 - وقد روي في غير هذا الحديث في النساء : هن صواحب يوسف ، وداود ، وجريج .

9232 - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في النساء : " إن منهن مائلات عن الحق مميلات لأزواجهن " .

9233 - وقال : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " .

9234 - وخرج كلامه هذا منه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الغضب على أزواجه وهن فاضلات ، وأراد جنس النساء غيرهن ، والله أعلم .

9235 - وفي هذا الحديث أيضا من قول حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا قط ، ما يدل على ضيق صدور بني آدم بما يؤذيهم ، وأن المكترث ربما قال قولا عاما يحمله عليه الحرج ; لأنه معلوم أنها كانت لا تعدم من عائشة خيرا وأنها تصيب منها الخير لا الشر .

9236 - وإذا كان مثل هذا في السلف الصالح فمن دونهم أحرى أن يعذر في مثله ، وبالله التوفيق .

[ ص: 332 ] 9237 - وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن عائشة ، قالت : والله ما كانت مراجعتي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ، إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول رجل يقوم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون ذلك الرجل أبي .

التالي السابق


الخدمات العلمية