الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
415 388 - مالك عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، أنه قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس بين ظهراني أصحابه ، إذ جاءه رجل فساره ، فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يستأذن في قتل رجل من المنافقين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جهر : " أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ فقال الرجل : بلى ولا شهادة له . قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى ولا صلاة له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أولئك الذين نهاني الله عنهم " .


9238 - قد ذكرنا في التمهيد من وصله من أصحاب مالك وأسنده ، ومن أسنده أيضا من أصحاب ابن شهاب ، واختلافهم فيه عليه ، وذكرنا طرقه واختلاف ألفاظ ناقليه ، كل ذلك في التمهيد ، والحمد لله .

9239 - وفيه من الفقه : إباحة المناجاة والتسار مع الواحد دون الجماعة ، وإنما [ ص: 333 ] المكروه أن يتناجى الاثنان فما فوقهما دون الواحد فإن ذلك يحزنه ، وأما مناجاة الاثنين دون الجماعة فلا بأس بذلك بدليل هذا الحديث وغيره .

9240 - ويحتمل أن يستدل بهذا الحديث على أن الرجل الرئيس المحتاج إلى رأيه ونفعه جائز أن يناجيه كل من جاءه في حاجته .

9241 - وفيه : أنه جائز للرجل أن يظهر الحديث الذي يناجيه به صاحبه إذا لم يكن في ذلك ضرر على المناجي ، أو كان ما يحتاج أهل المجلس إلى علمه .

9242 - وفيه : أن من أظهر الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حقنت دمه وحرمته ، إلا أن يأتي بما يوجب إراقته لما فرض الله عليه من الحق المبيح لقتل النفس المحرم قتلها .

9243 - قال الله - عز وجل - " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " [ الإسراء : 33 ] .

9244 - وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أليس يشهد أن لا إله إلا الله " دليل على أن الذي يشهد بالشهادة ولا يصلي لا تمنع الشهادة من أراقة دمه إذا لم يصل وأبى من إقامة الصلاة إذا دعي إليها .

9245 - وقد تقدمت أحكام تارك الصلاة وتنازع العلماء فيها في هذا الكتاب .

9246 - وفيه دليل على من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى لم يجز قتله ، إلا أن يرتد عن دينه ، أو يكون محصنا فيزني ، أو يسعى في الأرض بالفساد ، ويقطع السبيل ، ويحارب الناس على أموالهم ، ونحو هذا ، وإذا لم يجز قتل من [ ص: 334 ] يصلي جاز قتل من لا يصلي .

9247 - وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك الذين نهاني الله عنهم " رد لقول القائل له : بلى ولا صلاة ، بلى ولا شهادة له ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثبت له الشهادة والصلاة ، ثم أخبر أن الله - عز وجل - نهاه عن قتل من هذه صفته ، وأنه لا يكلف أكثر من أن يقر ظاهرا ويصلي ظاهرا ، وحسابه على الله ، فإن كان ذلك صادقا من قلبه يبتغي به وجه الله دخل الجنة ، ومن خادع بها فهو منافق في الدرك الأسفل من النار ، ولا يجوز قتله مع إظهاره الشهادة ، ويأتي القول في أحكام الزنديق بما للعلماء في ذلك بعد إن شاء الله .

9248 - والرجل الذي سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث هو عتبان بن مالك . والرجل الذي جرى فيه هذا القول هو مالك بن الدخشم .

9249 - وقد أوضحنا ذلك أيضا بالآثار المتواترة في التمهيد ، وفي بعضها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لبعض من قال فيه أنه منافق لا يحب الله ورسوله وما نرى مودته ونصيحته إلا للمنافقين : لا تقل ذلك ; فقد قال : لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله .

9250 - واختلف الفقهاء في استتابة الزنديق المشهود عليه بالكفر والتعطيل وهو مقر بالإيمان مظهر له جاحد لما شهد به عليه .

[ ص: 335 ] 9251 - فقال مالك وأصحابه : يقتل الزنادقة ولا يستتابون .

9252 - وسئل مالك عن الزندقة فقال : ما كان عليه المنافقون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إظهار الإيمان وكتمان الكفر هو الزندقة عندنا اليوم .

9253 - قيل لمالك : فلم يقتل الزنديق ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين [ ص: 336 ] وقد عرفهم ؟

9254 - فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو قتلهم لعلمه فيهم وهم يظهرون الإيمان لكان ذلك ذريعة إلى أن يقول الناس : قتلهم للضغائن والعداوة أو لما شاء الله غير ذلك ، فيمتنع الناس من الدخول في الإسلام .

9255 - هذا معنى قول مالك .

9256 - وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أنه قال : لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي .

9257 - وقد احتج عبد الملك بن الماجشون في قول الزنديق لقول الله - عز وجل - " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " [ الأحزاب : 60 - 61 ] ، يقول : إن الشأن فيهم أن يقتلوا حيث وجدوا ، ولم يذكر استتابة ، فمن لم ينته عما كان عليه المنافقون في عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ، والله أعلم .

9258 - وابن القاسم يورث ورثة الزنديق منه وهم مسلمون ، وهو تحصيل مذهب مالك .

[ ص: 337 ] 9259 - والحجة له أن الزنديق مظهر لدين الإسلام ، والشهادة عليه أنه يسر الكفر لا توجب القطع على علم ما شهد به الشهود ، والأصل أن مال كل ميت أو مقتول لورثته إلا أن يصح أنهم على دين سوى دينه ، وراعى في ذلك الاختلاف في استتابته .

9260 - ومعلوم أنه لو استتيب لثبت على قوله أنه مسلم ، فلهذا كله لم ير نقل المال عن ورثته .

9261 - وأما ابن نافع فجعل ميراثه فيئا لجماعة المسلمين ، وكلاهما يروي ذلك عن مالك .

9262 - ووجه رواية ابن نافع أنه لم يقتل حدا ولا لمحاربته ، وإنما قتل للكفر ، والدم أعظم حرمة من المال ، والمال تبع له يفيض على أصله ، وبالله التوفيق .

9263 - واختلف قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف في الزنديق ، فقالا مرة : يستتاب ، ومرة : لا يستتاب ويقتل دون استتابة .

9264 - وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : اقتلوا الزنديق ; فإن توبته لا تعرف ، وقاله أبو يوسف .

9265 - وقال الشافعي : يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد ظاهرا ، فإن لم يتب قتل .

9266 - قال : ولو شهد شاهدان على رجل بالردة فأنكر قتل ، فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله وتبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره .

[ ص: 338 ] 9267 - واحتج بقصة المنافقين وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتلهم بشهادة ولا بعلمه ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الشهادة تعصم الدم والمال ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله عصموا مني دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله ، وكلهم مع علمه بهم فيما أظهروا إلى يوم تبلى السرائر ويمتاز المؤمن من الكافر " .

9268 - وقد أجمعوا أن الزنديق إذا أظهر الزندقة يستتاب كغير الزنديق .

9269 - ودل قوله : عصموا مني دماءهم على أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص ، وأنها تحقن دمه وحسابه على الله .

9270 - وأجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر ، وإلى الله - عز وجل - السرائر .

9271 - وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : يستتاب الزنديق .

9272 - قال : ما أدري .

9273 - قلت : إن أهل المدينة يقولون : يقتل ولا يستتاب .

9274 - فقال : نعم ، يقولون ذلك ، ثم قال : من أي شيء يستتاب وهو لا يظهر الكفر ، هو يظهر الإيمان .

9275 - وقد أفردت لحكم المنافقين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحكامهم في مناكحتهم لبنات المسلمين الصالحين المؤمنين كتابا ، أتيت فيه على معاني المنافقين ، وكيف أقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مناكحة بنات المؤمنين ، وكيف الحكم فيهم عند السلف والخلف بما فيه الشفاء من هذا المعنى ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية