الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
3 حديث ثان 3 - مالك عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن وقت صلاة الصبح . قال : فسكت [ ص: 209 ] عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان من الغد ، صلى الصبح حين طلع الفجر . ثم صلى الصبح من الغد بعد أن أسفر . ثم قال : " أين السائل عن وقت الصلاة ؟ " قال : هأنذا يا رسول الله ، فقال : " ما بين هذين وقت " .


222 - لم يختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث ، وقد يتصل معناه من وجوه شتى : من حديث جابر ، وحديث أبي موسى ، وحديث عبد الله بن عمر ، وحديث بريدة الأسلمي ، إلا أن فيها سؤال السائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلاة جملة ، وإجابته فيها كلها على حسب ما ذكرناه من ذلك في " التمهيد " وفيها كلها في الصبح معنى حديث مالك هذا .

223 - وقد روى حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي - عليه السلام - عن صلاة الصبح ، فذكر مثل مرسل عطاء بن يسار هذا سواء ، وقد ذكرنا حديث حميد من وجوه في " التمهيد " .

[ ص: 210 ] 224 - وبلغني أن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن يسار ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - عليه السلام - . والصحيح في حديث عطاء الإرسال ، كما رواه مالك ، وحديث حميد عن أنس متصل صحيح .

225 - في هذا الحديث من الفقه : تأخير البيان عن وقت السؤال إلى وقت آخر يجب فيه فعل ذلك .

226 - فأما تأخير البيان عن حين تكليف الفعل والعمل حتى ينقضي وقته فغير جائز عند الجميع .

227 - وهذا باب طال فيه الكلام بين أهل النظر من أهل الفقه ، وقد أوضحناه في " التمهيد " .

228 - وقد يكون البيان بالفعل - فيما سبيله العمل - أثبت في النفوس من القول ، دليل ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليس الخبر كالمعاينة " . رواه ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يروه غيره .

229 - وفي هذا الحديث أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر ، وأن آخر وقتها ممدود إلى آخر الإسفار على ما مضى في الحديث الذي قبل هذا .

230 - ولا خلاف بين علماء المسلمين في أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر على ما في هذا الحديث ، وظهوره للعين .

231 - والفجر هو أول بياض النهار الظاهر في الأفق الشرقي المستطير المنير المنتشر ، تسميه العرب : الخيط الأبيض .

[ ص: 211 ] 232 - قال الله عز وجل : " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " . ( البقرة : 187 ) يريد بياض النهار من سواد الليل .

233 - وقال أبو دؤاد الإيادي : فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا .

234 - وقال آخر : قد كاد يبدو أو بدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره .

235 - وسمته أيضا : الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر .

236 - قال بشر بن أبي خازم ، أو عمرو بن معد يكرب : به السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته الصديع .

237 - وشبهه الشماخ بمفرق الرأس لمن فرق شعره ، فقال : إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين .

[ ص: 212 ] 238 - ويقولون للأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وتباشير الصبح ، وكانبلاج الفجر .

239 - وقد زدنا هذا بيانا في " التمهيد " .

240 - وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما بين هذين وقت " دليل على سعة الوقت في الصبح وفي غيرها من الصلوات على ما قد أوضحنا فيما مضى من الأوقات .

241 - ونزع بقوله : " ما بين هذين وقت " إلى جعل أول الوقت كآخره في الفضل .

242 - ومال إلى ذلك بعض أصحاب مالك ، وقال به أهل الظاهر ، وخالفهم جمهور العلماء ، ونزعوا بأشياء قد ذكرتها في " التمهيد " وعمدتها أن المبادر إلى أداء فرضه في أول الوقت - أفضل من المتأني به ، وطالب الرخصة في السعة فيه ؛ بدليل قوله عز وجل : " فاستبقوا الخيرات " ( البقرة : 148 ) وقوله : " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " ( الحديد : 31 ) .

243 - وقال - عليه السلام - : " أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله " .

[ ص: 213 ] 244 - وقال - عليه السلام - : " أفضل الأعمال : الصلاة لأول وقتها " .

245 - وقد ذكرنا الحديث في " التمهيد " .

246 - واختلف الفقهاء في الأفضل من صلاة الصبح ، فذهب الكوفيون ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي ، وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل من التغليس في الأزمنة كلها : الشتاء والصيف .

[ ص: 214 ] 247 - واحتجوا بحديث رافع بن خديج عن النبي - عليه السلام - : " أسفروا بالصبح ، فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر " .

248 - وقد ذكرنا هذا الحديث وبينا علته على مذهب من علله في " التمهيد " .

249 - وذكروا عن علي ، وابن مسعود ، أنهما كانا يسفران بالصبح جدا .

[ ص: 215 ] 250 - وكان مالك ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي ، يذهبون إلى أن التغليس بصلاة الصبح أفضل ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وأبي ثور ، وداود بن علي ، وأبي جعفر الطبري .

251 - ومن حجتهم حديث عائشة : " أن رسول الله - عليه السلام - كان يصلي فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ، ما يعرفن من الغلس " .

252 - وذكروا عن أبي بكر ، وعمر أنهما كانا يغلسان ، وأنه لما قتل عمر أسفر بها عثمان .

253 - ولم يختلف المسلمون في فضل البدار إلى المغرب ، وكذلك سائر الصلوات في القياس عند تعارض الآثار .

254 - وقد أوضحنا معنى الإسفار في قوله : " أسفروا بالفجر " في " التمهيد " واختصار ذلك أن الإسفار : التبين ، والتبين بالفجر إذا انكشف واتضح لئلا يصلي في مثله من دخول الوقت ، ومن ذلك قول العرب : أسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفت عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية