الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
442 416 - وأما حديث مالك في هذا الباب عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي [ ص: 73 ] بهم ركعة ، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو ولم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين . فتقوم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين ، فإن كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها .

[ ص: 74 ] 9704 - قال مالك ، قال نافع : لا أرى عبد الله بن عمر حدثه إلا عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .


9705 - هكذا روى مالك هذا الحديث عن نافع على الشك في رفعه ، ورواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه .

9706 - وممن رواه مرفوعا عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير شك : ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى .

9707 - وكذلك رواه الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

9708 - وكذلك رواه خالد بن معدان ، عن ابن عمر ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

9709 - وقد ذكرنا أحاديثهم عنه بالأسانيد من طرق في " التمهيد " .

9710 - وذكرنا من روى مثل ذلك في صلاة الخوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من / [ ص: 75 ] حديث ابن عباس ، وأبي موسى ، وأبي هريرة في " التمهيد " أيضا .

9711 - وقال بحديث ابن عمر هذا ومن كان مثله من الفقهاء جماعة منهم الأوزاعي ، وإليه ذهب أشهب بن عبد العزيز صاحب مالك .

9712 - وكان أحمد بن حنبل ، ومحمد بن جرير الطبري ، وطائفة من أصحاب الشافعي يذهبون إلى جواز العمل بكل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف وهي ستة أوجه قد ذكرناها كلها من طرق في " التمهيد " وذكرنا من ذهب إليها من العلماء .

9713 - أحدها حديث ابن عمر ومن تابعه .

[ ص: 76 ] 9714 - والثاني حديث سهل بن أبي حثمة ومن تابعه .

9715 - والثالث حديث ابن مسعود ومن تابعه .

9716 - وقد ذكرنا هاهنا القائلين بها من الفقهاء مثله على حسب ما ذكرناه في " التمهيد " .

9717 - ومن القائلين به ابن أبي ليلى ، والثوري أيضا في تخييره ، وقال به غيرهما من الفقهاء من أصحابنا ، وأصحاب الشافعي إذا كان العدو في القبلة .

9718 - والخامس حديث حذيفة وما كان مثله على ما هو مذكور في التمهيد وهو أحد الأوجه الثلاثة التي خير الثوري فيها ، رحمه الله .

9719 - السادس من حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 77 ] أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين ، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين .

9720 - وكذلك كان يفتي الحسن البصري ، وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية المأموم والإمام في الصلاة ، وأجاز لمن صلى في بيته أن يؤم في تلك الصلاة .

9721 - وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وابن علية ، وأحمد بن حنبل ، وداود .

9722 - ولا معنى لقول من قال : إن حديث أبي بكرة ، وحديث جابر كان في الحضر ; لأن فيه سلامه في كل ركعتين منها وقد ذكرناهما بأحسن أسانيدهما : في [ ص: 78 ] " التمهيد " .

9723 - وهما ثابتان من جهة النقل عند أهل العلم به ، وغير محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الخوف في الحضر ، ومعلوم أن صلاة الخوف إنما وضعت على أخف ما يمكن وأحوطه للمسلمين ، وهذا من أحوط وجوه صلاة الخوف .

9724 - وقد حكى المزني ، عن الشافعي قال : ولو صلى بكل طائفة ركعتين ثم سلم ، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين وسلم كان جائزا .

9724 - قال : وهكذا صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل .

9726 - واختار هذا الوجه بعض أصحاب داود .

9727 - قال أبو عمر : الحجة لمن قال بحديث ابن عمر في هذا الباب أنه حديث ورد بنقل أئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم ; ولأنه أشبه بالأصول ; لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول [ ص: 79 ] الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة وهو المعروف من سنته المجتمع عليها من سائر الصلوات ، وأما صلاة الطائفة الأولى ركعتهما قبل أن يصليهما إمامها فهو مخالف للسنة المجتمع عليها في سائر الصلوات وخلاف لقوله : إنما جعل الإمام ليؤتم به .

9728 - وقد روى الثقات حديث صالح بن خوات على معنى حديث ابن عمر فصار حديث سهل بن أبي حثمة مختلفا فيه ، ولم يختلف في حديث ابن عمر إلا بما جاء من شك مالك في رفعه ، وشكه في ذلك مردود إلى يقين سائر من رواه بغير شك ، والشك لا يلتفت إليه واليقين معمول عليه ، والرواية التي رويت في حديث سهل بن أبي حثمة بمعنى حديث ابن عمر رواها يحيى القطان ، عن شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف فذكر مثل حديث ابن عمر وقد ذكرناه بإسناده في " التمهيد " .

9729 - وقالت طائفة من أهل العلم منهم : أبو يوسف وابن علية : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمام واحد وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي كل واحد [ ص: 80 ] منهما بطائفة ركعتين .

9730 - واحتجوا بقول الله - عز وجل - " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك " [ النساء : 102 ] الآية 9731 - قالوا فإذا لم يكن فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك لهم ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره في ذلك ، ولم يكن من أصحابه من يؤثر بنصيبه فيه غيره ، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه وليس أحد بعده يقوم بالفضل مقامه ، والناس بعده تستوي أحوال أهل الفضل منهم أو تتقارب .

9732 - وليس بالناس حاجة إلى إمام واحد عند الخوف بل يصلي بطائفة من شاءوا ، وتحترس الأخرى فإذا فرغت صلى بالناس منهم من يقدمونه كذلك .

9733 - هذه جملة من احتج به من ذهب مذهب أبي يوسف في ذلك . ومن الحجة عليه لسائر العلماء إجماعهم على أن قول الله ، عز وجل : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم " [ التوبة : 103 ] ينوب فيها منابه ويقوم فيها مقامه الخلفاء والأمراء بعده .

9734 - وكذلك قوله تعالى " وإذا كنت فيهم " [ النساء : 102 ] 9735 - ومن الدليل على أن ما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلت فيه أمته قول الله ، عز وجل : " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم " [ الأحزاب : 37 ] ومثله : " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم " [ الأنعام : 68 ] هو المخاطب - صلى الله عليه وسلم - وأمته داخلة في ذلك ، ومثله كثير .

[ ص: 81 ] 9736 - وأما مراعاة القبلة للخائف في الصلاة فساقطة عند أهل المدينة والشافعي إذا اشتد خوفه ، كما يسقط عنه النزول إلى الأرض لقوله عز وجل : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " [ البقرة : 239 ] .

9737 - قال ابن عمر : مستقبل القبلة وغير مستقبلها وهذا لا يجوز لمصلي الفرض في غير الخوف .

9738 - قال : قول ابن عمر هذا مذهب جماعة من أهل الفقه منهم مالك والشافعي ، قالا : يصلي المسافر الخائف على قدر طاقته مستقبل القبلة وغير مستقبلها .

9739 - وبذلك قال أهل الظاهر لعموم قوله " فإن خفتم " .

9740 - وقال ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة ولا يصلي أحد في حال المسابقة .

9741 - وقول الثوري في هذه المسألة نحو قول مالك .

9742 - ومن قول مالك والثوري أنه إن لم يقدر على الركوع والسجود فإنه يصلي قائما ويومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع .

9743 - وقال الأوزاعي : إذا كان القوم مواجهي العدو وصلى بهم إمامهم صلاة الخوف فإن شغلهم القتال صلوا فرادى ، فإن اشتد القتال صلوا رجالا وركبانا إيماء حيث كانت وجوههم فإن لم يقدروا تركوا الصلاة حتى يأمنوا .

9744 - وقد زدنا هذا الباب إيضاحا بالمسائل عن العلماء في " التمهيد " .

[ ص: 82 ] 9745 - وأحسن الناس صفة لحال الخوف الذي لا يجوز فيه الصلاة إلا بالأرض إلى القبلة وتحرس أحد الطائفتين فيه الأخرى ، ولحال شدة الخوف الذي يجوز فيه الصلاة راكبا وراجلا مستقبل القبلة ، وغير مستقبلها الشافعي - رحمه الله - في كتابه ، فإنه قد وصف الحالتين صفة بينة واضحة . وقد أوردنا ذلك عنه وعن غيره في " التمهيد " ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية