الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
444 [ ص: 87 ] ( 12 ) كتاب صلاة الكسوف

[ ص: 88 ] [ ص: 89 ] ( 1 ) باب العمل في صلاة الكسوف

418 - ذكر فيه مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : خسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس فقام فأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم قام فأطال القيام - وهو دون القيام الأول - ثم ركع فأطال الركوع - وهو دون الركوع الأول - ثم رفع فسجد ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك . ثم انصرف وقد تجلت الشمس . فخطب الناس فحمد الله ، وأثنى عليه ثم قال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته [ ص: 90 ] فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله . وكبروا ، وتصدقوا " ثم قال : " يا أمة محمد ! والله ! ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته . يا أمة محمد ! والله . لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " .

419 - وكذلك حديثه عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن [ ص: 91 ] عبد الله بن عباس أنه قال : خسفت الشمس فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه . فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة . قال : ثم ركع ركوعا طويلا . ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول . ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ، ثم سجد ، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول . ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول . ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول . ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس . فقال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله " قالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت ، فقال : " إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا . ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا . ورأيت النار ، فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء " قالوا : لم يا رسول الله ؟ قال : " لكفرهن ، قيل : أيكفرن بالله ؟ ! قال : " ويكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان . لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت [ ص: 92 ] منك شيئا ، قالت : ما رأيت منك خيرا قط " .

420 - وعن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة زوج النبي ، صلى الله عليه وسلم : أن يهودية جاءت تسألها ، فقالت : أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيعذب الناس في قبورهم ؟ فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : عائذا بالله من ذلك . ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة مركبا . فخسفت الشمس . فرجع ضحى . فمر بين ظهراني الحجر ، ثم قام يصلي وقام الناس وراءه ، فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا .

ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول . ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول . ثم رفع فسجد . ثم قام قياما طويلا وهو دون [ ص: 93 ] القيام الأول . ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول . ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول . ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول . ثم رفع . ثم سجد ثم انصرف فقال ما شاء الله أن يقول . ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر
.


9764 - وكذلك رواه ابن شهاب ، عن عمرة ، عن عائشة .

9765 - وهذه الأحاديث من أصح ما يروى في صلاة الكسوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت الآثار في صلاة الكسوف عنه كثيرة مختلفة ، وقد ذكرنا كثيرا منها في " التمهيد " .

9766 - فأما أحاديث مالك في هذا الباب فعلى ما ذكرنا تضمنت ركعتين في كل ركعة ركوعان .

[ ص: 94 ] 9767 - وبذلك يقول مالك والشافعي وأصحابهما وجمهور أهل الحجاز .

9768 - وبه قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل وأبو ثور .

[ ص: 95 ] 9769 - وقوله في الحديث وهو دون القيام الأول في القيام الثاني من الركعة [ ص: 96 ] الأولى فليس فيه ما يحتاج إلى تفسير ، وكذلك الركوع الثاني في الركعة الأولى دون الركوع الأول فيها ، ليس في ذلك ما يحتمل تأويلا .

9770 - وأما قوله في قيام الركعة الثانية وهو دون القيام الأول فيحتمل أن يكون أراد دون الأول في الركعة الأولى ، فتكون الركعة الأولى قيامها وحده أطول من قيام سائر الصلوات ، وكذلك ركوعها الأول يحتمل أن يكون دون الأول فيها وكذلك ركوعها الثاني دون الركوع الأول فيها ، وأي ذلك كان فلا حرج فيه إن شاء الله .

9771 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا في " التمهيد " .

9772 - وفيما ذكرنا بعد في القراءة عن مالك والشافعي ما يبين مذهبهما في ذلك .

9773 - وقال مالك : لم أسمع أن السجود يطول في صلاة الكسوف . وهو مذهب الشافعي .

9774 - ورأت فرقة من أهل الحديث تطويل السجود ورواية عن ابن عمر .

9775 - وقال الكوفيون ، منهم أبو حنيفة والثوري والحسن بن حي : صلاة الكسوف كهيئة صلاتنا ركعتان نحو صلاة الصبح ، ثم الدعاء حتى ينجلي .

9776 - وهو قول إبراهيم النخعي .

9778 - وروى محمد قول الكوفيين في صلاة الكسوف عن [ ص: 97 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي بكرة ، وسمرة بن جندب ، [ ص: 98 ] وعبد الله بن عمر ، والنعمان بن بشير ، وقبيصة [ ص: 99 ] الهلالي ، وعبد الرحمن بن سمرة .

9778 - وقد ذكرنا بعضها في " التمهيد " وهي آثار مشهورة صحاح إلا أن المصير إلى زيادة من حفظ أولى .

9779 - فإن قيل : إنه قد روي في صلاة الكسوف عشر ركعات في ركعة ، وثماني ركعات في ركعة ، وست ركعات في ركعة ، وأربع ركعات في ركعة ، فهلا صرت إلى زيادة من زاد في ذلك ؟ [ ص: 100 ] قيل له : تلك آثار معلولة ضعيفة قد ذكرنا عللها في " التمهيد " .

9780 - ومن أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة ، عن النعمان بن بشير قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف نحو صلاتكم يركع ويسجد ركعتين ركعتين ، ويسأل حتى تجلت .

9781 - رواه أيوب السختياني وعاصم الأحول ، عن أبي قلابة .

9782 - وقال قبيصة الهلالي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : إذا انكسفت الشمس أو القمر فصلوا كأحدث صلاة صليتموها مكتوبة .

9783 - وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في " التمهيد " .

9784 - وإنما يصير كل عالم إلى ما روى عن شيوخه ورأى عليه أهل بلده . وقد يجوز أن يكون ذلك اختلافا بإباحة وتوسعة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف مرارا ، فحكى كل ما رأى ، كل صادق قد جعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالنجوم فكلهم في النقل من اقتدى به اهتدى .

9783 - وقد تكلمنا على معنى هذا الحديث في كتاب " بيان العلم " بما فيه بيان إن شاء الله .

9786 - وأما ظن من ظن من الكوفيين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ركوعه ركوعين في ركعة إلا لرفعه رأسه إلى السماء ليعلم هل تجلت الشمس أم لا ، فليس ذلك بشيء ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الكسوف في صحراء قط فيما علمت [ ص: 101 ] وإنما صلاها في المسجد . وذلك معلوم منصوص عليه في الآثار الصحاح .

9786 - وقد ذكر ابن أبي شيبة قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن حسن بن صالح ، عن عيسى بن أبي عروة قال : كسفت الشمس أو القمر فقال الشعبي : عليكم بالمسجد فإنه من السنة .

9788 - وأجمع العلماء على أن صلاة الكسوف ليس فيها أذان ولا إقامة ، إلا أن الشافعي قال : لو نادى مناد لصلاة ; ليخرج الناس إلى المسجد ، لم يكن بذلك بأس .

9789 - واختلفوا في القراءة في صلاة الكسوف ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة والليث بن سعد : القراءة فيها سرا .

9790 - وفي حديث ابن عباس في هذا الباب قوله نحو من سورة البقرة ، دليل على أن القراءة كانت سرا .

9791 - وروى سمرة بن جندب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف قال : فقام لنا كأطول ما قام بنا قط لا نسمع له صوتا .

9792 - وروى محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، وعبد الله بن أبي سلمة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فصلى بالناس فقام فأطال القيام فحزرت أنه قرأ سورة البقرة . . . وساق الحديث ، قال : وسجد سجدتين ثم قام ، فحزرت قراءته أنه قرأ سورة آل [ ص: 102 ] عمران .

9793 - وقد روي عن ابن عباس أنه قال في صلاة الكسوف : كنت جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما سمعت منه حرفا .

9794 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صلاة النهار عجماء .

9795 - وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنهم حزروا قراءته بالروم ويس أو العنكبوت .

9796 - والذي استحب مالك والشافعي أن يقرأ في الأولى بالبقرة وفي الثانية بآل عمران وفي الثالثة بقدر مائة وخمسين آية من البقرة ، وفي الرابعة بقدر خمسين آية من البقرة ، وفي كل واحدة أم القرآن .

9797 - وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف .

9798 - ورووا عن علي بن أبي طالب أنه جهر .

9799 - ذكره وكيع قال : حدثنا سفيان ، عن الشيباني ، عن الحكم ، عن حنش الكناني : أن عليا جهر بالقراءة في الكسوف .

[ ص: 103 ] 9800 - قال وكيع : وحدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في كسوف ركعتين فقرأ في إحداهما بالنجم .

9801 - قال وكيع : وحدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن الماجشون ، قال : سمعت أبان بن عثمان قرأ في الكسوف " سأل سائل " [ المعارج : 1 ] .

9802 - قال أبو بكر : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن حسن بن صالح ، عن عبد الله بن عيسى قال : صلى بنا عبد الرحمن بن أبي ليلى حين انكسف القمر مثل صلاتنا هذه في رمضان فقرأ في أول ركعة ب " يس " .

9803 - ورووا عن زيد بن أرقم ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن يزيد الخطمي أنهم جهروا بالقراءة في الكسوف .

9804 - وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، واحتجا بحديث سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس .

9805 - وسفيان بن حسين ليس بالقوي .

9806 - وقد تابعه على ذلك عن الزهري ، عبد الرحمن بن نمر ، وسليمان بن كثير . وكلهم لين الحديث في الزهري .

[ ص: 104 ] 9807 - وقد تقدم حديث ابن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، وعبد الله بن أبي سلمة ، عن عروة ، عن عائشة بما يعارض حديث سفيان بن حسين ومن تابعه ويدفعه .

[ ص: 105 ] 9808 - ومن حجة من قال بالجهر في صلاة الكسوف إجماع العلماء على أن كل صلاة سنتها أن تصلى في جماعة من الصلوات المسنونات فسنتها الجهر كالعيدين والاستسقاء قالوا : فكذلك الكسوف .

9809 - قال الطبري : إن شاء جهر في صلاة الكسوف ، وإن شاء أسر ، وإن شاء قرأ في كل ركعة مرتين وركع فيها ركوعين ، وإن شاء أربع قراءات وركع أربع ركعات وإن شاء ثلاث ركعات في كل ركعة ، وإن شاء ركعتين كصلاة النافلة .

9810 - قال أبو عمر : أحسن أبو جعفر ، رحمه الله .

9811 - واختلف الفقهاء أيضا في وقت صلاة الكسوف وهل تصلى في كل النهار أم لا ؟ .

9812 - فروى ابن وهب عن مالك ، قال : لا تصلى الكسوف إلا في حين تجوز فيه الصلاة النافلة فإن كسفت في غير حين صلاة لم يصلوا ، فإن جاز وقت الصلاة ولم تنجل صلوا ، فإن تجلت قبل ذلك لم يصلوا .

9813 - وروى ابن القاسم عنه قال : لا أرى أن تصلى الكسوف بعد الزوال وإنما سنتها أن تصلى ضحى إلى الزوال .

9814 - وقال الليث بن سعد : تصلى الكسوف نصف النهار لأن نصف النهار لا يكاد يثبت لسرعة الشمس .

9815 - قال الليث : حججت سنة ثلاث عشرة ومائة ، وعلى الموسم سليمان بن هشام وبمكة عطاء بن أبي رباح ، وابن أبي مليكة ، وابن شهاب ، وعكرمة بن خالد ، وعمرو بن شعيب ، وقتادة ، وأيوب بن موسى ، وإسماعيل بن أمية ، فكسفت الشمس بعد العصر فقاموا قياما يدعون الله في المسجد فقلت لأيوب بن [ ص: 106 ] موسى : ما لهم لا يصلون فقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف ؟ فقال : النهي جاء في الصلاة بعد العصر فلذلك لا يصلون ، والنهي يقطع الأمر .

9816 - وقال أبو حنيفة وأصحابه والطبري : لا تصلى صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عنها .

9817 - وقال الشافعي : تصلى صلاة الكسوف في كل وقت نصف النهار وبعد العصر وهو قول أبي ثور .

9818 - وحجتهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن الصلاة بعد العصر والصبح إلا عن النافلة المبتدأة لا عن المكتوبات ، ولا عن الصلوات المسنونات .

9819 - وقد تقدم هذا المعنى واضحا في باب الأوقات .

9820 - وقال إسحاق : تصلى صلاة الكسوف في كل وقت إلا في حين طلوع الشمس وغروبها .

9821 - وقال إسحاق في صلاة الكسوف : إن شاء أربع ركعات في ركعتين ، وإن شاء ست ركعات في ركعتين ، كل ذلك مؤتلف يصدق بعضه بعضا ; لأنه إنما كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد تجلت ، فإذا تجلت سجد .

9822 - قال : ولا يزاد على هذه الركعات لأنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك .

9823 - واختلفوا أيضا في صلاة كسوف القمر .

[ ص: 107 ] 9824 - فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : لا يجمع في صلاة كسوف القمر ولكن يصلي الناس أفرادا ركعتين ركعتين كسائر الصلوات .

9825 - والحجة لهم قوله ، صلى الله عليه وسلم : " صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة " ، وخص صلاة كسوف الشمس بالجمع لها ، ولم يفعل ذلك في صلاة القمر ، فخرجت صلاة كسوف الشمس بدليلها وما ورد من التوقيت فيها وبقيت صلاة القمر على أصل ما عليه النوافل .

9826 - وقال الليث بن سعد : لا يجمع في صلاة القمر ولكن الصلاة فيها كهيئة الصلاة في كسوف الشمس .

9726 - وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة . ذكره ابن وهب عنه ، وقال : ذلك لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإذا رأيتم ذلك فادعوا إلى الصلاة " .

9828 - وقال الشافعي ، و أصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، والطبري ، وسائر أهل الحديث في كسوف القمر كهي في كسوف الشمس سواء .

9829 - وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء .

9830 - وحجتهم في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الشمس والقمر آيتان [ ص: 108 ] من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله ، عز وجل .

9831 - قال الشافعي ، رحمه الله : فكان الذكر الذي فزع إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند كسوف الشمس هي الصلاة المذكورة ، فكذلك خسوف القمر تجمع الصلاة لخسوفه كهي عند كسوف الشمس ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بينهما في الذكر ، وقال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا " وفي حديث آخر : " فصلوا حتى يكشف ما بكم " وفي حديث آخر ، " فافزعوا إلى الصلاة "

9832 - وقد عرفنا كيف الصلاة عند إحداهما فكان دليلا على الصلاة عند الأخرى .

9833 - قال أبو عمر : روي عن عثمان بن عفان ، وابن عباس أنهما صليا في خسوف القمر جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان مثل قول الشافعي .

9834 - واختلفوا أيضا في الخطبة بعد صلاة الكسوف .

9835 - فقال الشافعي ومن اتبعه ، وهو قول إسحاق ، والطبري : يخطب بعد الصلاة في الكسوف كالعيدين والاستسقاء .

9836 - واحتج الشافعي بحديث مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في حديث الكسوف ، وفيه : ثم انصرف وقد تجلت الشمس : فخطب الناس فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا [ ص: 109 ] يخسفان لموت أحد ولا لحياته . . . الحديث " ، وبه احتج كل من رأى الخطبة في الكسوف .

9837 - وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما : لا خطبة في كسوف الشمس .

9838 - واحتج بعضهم في ذلك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خطب الناس لأنهم قالوا : إن الشمس كسفت لموت إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلذلك خطبهم يعرفهم أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته .

9839 - وكان مالك والشافعي : لا يريان الصلاة عند الزلزلة ولا عند الظلمة والريح الشديدة .

9840 - ورآها جماعة من أهل العلم منهم : أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .

9841 - وروي عن ابن عباس أنه صلى في الزلزلة .

[ ص: 110 ] 9842 - وقال ابن مسعود : إذا سمعتم هادا من السماء فافزعوا إلى الصلاة .

9843 - وقال أبو حنيفة : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .

9844 - قال أبو عمر : لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة ، وقد كانت أول ما كانت في الإسلام على عهد عمر فأنكرها ، وقال : أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم .

9845 - رواه ابن عيينة عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن صفية ، قالت : زلزلت المدينة على عهد عمر حتى اصطكت السور . فقام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ما أسرع ما أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم .

9846 - وروى حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : زلزلت الأرض بالبصرة ، فقال : ابن عباس والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض ، فقام بالناس فصلى مثل صلاة الكسوف .

[ ص: 111 ] 9847 - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك : رأيناك تكعكعت ، فمعناه عند أهل اللغة : احتبست وتأخرت .

9848 - وقال الفقهاء : معناه تقهقرت .

9849 - والمعنى واحد متقارب .

9850 - وقال متمم بن نويرة : .


ولكنني أمضي على ذاك مقدما إذا بعض من لاقى الرجال تكعكعا

.

9851 - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - إني رأيت الجنة ورأيت النار ، فإن الآثار في رؤيته لهما كثيرة ، وقد رآهما مرارا على ما جاءت عنه الآثار عنه - صلى الله عليه وسلم - وعند الله علم كيفية رؤيته لهما .

9852 - فيمكن أن يتمثلا له فينظر إليهما بعيني وجهه ، كما مثل له بيت المقدس حين كذبه الكفار في الإسراء فنظر إليه وجعل يخبرهم عنه .

[ ص: 112 ] 9853 - وممكن أن يكون ذلك برؤية القلب ، قال الله ، عز وجل : " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " [ الأنعام : 75 ] .

9854 - واختلف أهل التفسير في تأويل ذلك .

9855 - فقال مجاهد : فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن .

9856 - ذكره حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد .

9857 - وذكر معمر عن قتادة ، قال : ملكوت السماوات الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وملكوت الأرض الجبال ، والشجر ، والبحار .

9858 - والظاهر في حديث مالك في هذا الباب أنه رأى الجنة والنار رؤية عين ، والله أعلم ، وتناول من الجنة عنقودا على حسب ما جاء في الحديث . ويؤيد ذلك قوله : فلم أر كاليوم منظرا قط ، وحق النظر إذا أطلقوا الرؤية إلا أن يتعدى بهما رؤية العين إلا بدليل لا يحتمل تأويلا .

9859 - وفي ذلك دليل أيضا على أن الجنة والنار مخلوقتان .

9860 - وقد أوردنا في " التمهيد " من الآثار الدالة على ذلك ، الشاهدة به ما فيه كفاية .

9861 - وأما قوله اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ، فإنه قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى من وجوه شتى [ ص: 113 ] متواترة .

9862 - منها حديث أسامة بن زيد ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين ، وإذا أصحاب الجد محبوسون إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار ، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء " .

9863 - وهذا أثبت ما يروى من الآثار .

9864 - وقد ذكرنا إسناده في " التمهيد " .

9865 - وأما قوله : قالوا : لم يا رسول الله ؟ قال : " بكفرهن " قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : " ويكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان " .

9866 - فهكذا رواية يحيى : ويكفرن العشير بالواو ، والمحفوظ فيه عن مالك من رواية ابن القاسم ، والقعنبي ، وابن وهب ، وعامة رواة " الموطأ " ، قال : يكفرن العشير بغير واو ، وهو الصحيح في الرواية ، والظاهر من المعنى .

9867 - وأما رواية يحيى فالوجه فيها - والله أعلم - أن يكون السائل لما قال : أيكفرن بالله ، لم يجبه على قوله ذلك جوابا مكشوفا لإحاطة العلم أن من النساء من يكفرن بالله كما من الرجال من يكفر بالله ، فكأنه قال : ومع إيمانهن بالله [ ص: 114 ] يكفرن العشير والإحسان ، ولم يجاوبه عن كفرهن بالله لأنه قصد إلى غير ذلك .

9868 - ألا ترى قوله للنساء : تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار .

9869 - وقد ذكرنا الحديث بذلك في " التمهيد " .

9870 - وأما قوله : " يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان " فالعشير في هذا الموضع عند أهل العلم : الزوج .

9871 - والمعنى عندهم في ذلك كفر النساء لحسن معاشرة الزوج ، ثم عطف على ذلك كفرهن بالإحسان جملة في الزوج وغيره .

9872 - وقال أهل اللغة : الخليط من المعاشرة والمخالطة .

9873 - ومنه قول الله ، عز وجل : " لبئس المولى ولبئس العشير " [ الحج 13 ] .

9874 - قال الشاعر : .


فتلك التي لم يشكها في خليقة     عشير وهل يشكو الكريم عشير

.

9875 - وقال آخر : [ ص: 115 ]

سلا هل قلاني من عشير صحبته     وهل ذم رحلي في الرفاق دخيل



9876 - وقد ذكرنا في " التمهيد " من طرق قوله : " لا ينظر الله - عز وجل - إلى امرأة لا تعرف حق زوجها ولا شكره وهي لا تستغني عنه " .

9877 - والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

9878 - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة عائذا بالله من عذاب القبر فكثيرا ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من عذاب الله ومن فتنة القبر ، وأهل السنة والجماعة مصدقون بفتنة القبر وعذاب القبر لتوافر الأخبار بذلك عن النبي ، صلى الله عليه وسلم .

9879 - وقد أثبتنا منها في " التمهيد " بما فيه شفاء ، والحمد لله .

9880 - وأما قوله : خسفت الشمس ، فالخسوف عند أهل اللغة ذهاب لونها .

9881 - وأما الكسوف فتغير لونها .

9882 - قالوا : يقال بئر خسيف ، إذا ذهب ماؤها ، وفلان كاسف اللون أي متغير اللون إلى الصفرة .

9883 - وقد قيل : الكسوف والخسوف بمعنى واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية