الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
458 [ ص: 186 ] ( 4 ) باب ما جاء في القبلة

433 - ذكر فيه عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ; أنه قال : [ ص: 187 ] بينما الناس بقباء في صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها . وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة .


10133 - قال أبو عمر : أكثر الرواة رووا : " فاستقبلوها على لفظ [ ص: 188 ] الخبر وقد رواها بعضهم على لفظ الأمر .

10134 - ومن روى هذا الحديث عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر فقد أخطأ فيه ; وإنما هو لمالك ، عن عبد الله بن دينار في جميع الموطآت وجماعة الرواة عنه .

10135 - وفيه دليل على قبول خبر الواحد والعمل به ، وإيجاب الحكم بما صح منه ; لأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد استعملوا خبره ، وقضوا به ، وتركوا قبلة كانوا عليها لخبر الواحد العدل ، ولم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك عليهم .

[ ص: 189 ] [ ص: 190 ] [ ص: 191 ] [ ص: 192 ] [ ص: 193 ] [ ص: 194 ] [ ص: 195 ] [ ص: 196 ] [ ص: 197 ] [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] [ ص: 200 ] [ ص: 201 ] 10136 - وحسبك بمثل هذا سنة وعملا من خير القرون وفي حياة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

10137 - والمخبر الذي أخبر خير القرون أهل قباء هو عباد بن بشر الأنصاري .

10138 - قد ذكرنا الخبر بذلك في " التمهيد " .

10139 - وفيه أن القرآن كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا بعد شيء ، [ ص: 202 ] وفي حال بعد حال على حسب الحاجة إليه حتى أكمل الله دينه وقبض رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما أنزل القرآن جملة واحدة ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، ثم كان ينزل به جبريل نجما بعد نجم وحينا بعد حين .

10140 - وقال عكرمة ، وجماعة في قوله تعالى : " فلا أقسم بمواقع النجوم " [ الآية الكريمة 75 من سورة الواقعة ] قالوا : القرآن نزل جملة واحدة فوضع بمواقع النجوم ، فجعل جبريل ينزل بالآية والآيتين .

10141 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا في " التمهيد " .

10142 - وقال الله ، عز وجل : " إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر " [ سورة القدر : 1 ، 2 ] يعني القرآن .

10143 - قال ابن عباس وغيره : إلى سماء الدنيا .

10144 - وقال ، عز وجل : " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " [ الآية الكريمة 32 من سورة الفرقان ] .

[ ص: 203 ] 10145 - وفيه : أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ، ولا خلاف بين علماء الأمة أنها كانت إلى بيت المقدس ، وكذلك في الآثار عن علماء السلف أشهر وأعرف من أن يحتاج إلى إيراده هنا .

[ ص: 204 ] 10146 - قال الله ، عز وجل : " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " [ الآية 142 من سورة البقرة ] واختلفوا في السفهاء هنا فقيل : المنافقون ، وقيل : اليهود .

10147 - وقال الله ، عز وجل : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها " [ الآية 144 ] من سورة البقرة ] .

10147 - وفي ذلك دليل على أن في أحكام الله - تعالى - ناسخا ومنسوخا ، وهو ما لا اختلاف فيه بين العلماء الذين هم الحجة على من خالفهم .

[ ص: 205 ] [ ص: 206 ] [ ص: 207 ] [ ص: 208 ] 10149 - وقد أوردنا من الآثار في " التمهيد " ما فيه كفاية في معنى هذه الآية .

[ ص: 209 ] [ ص: 210 ] 10150 - وقد أجمع العلماء على أن أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة ، وأجمعوا على أن ذلك كان بالمدينة ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما صرف عن الصلاة إلى [ ص: 211 ] بيت المقدس وأمر بالصلاة إلى الكعبة بالمدينة .

10151 - واختلفوا في صلاته بمكة قبل الهجرة حين فرضت الصلاة عليه .

10152 - فقالت طائفة : كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فرضت الصلاة عليه بمكة إلى أن قدم المدينة ، ثم بالمدينة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا على حسب اختلاف الرواية في ذلك .

10153 - حدثنا خلف بن قاسم ، قال : حدثنا وجيه بن الحسن ، قال : حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه ، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ، ثم صرف إلى الكعبة .

10154 - وقال آخرون : إنما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة طول مقامه بمكة ، ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا . وقيل : سبعة عشر شهرا . وقيل : ثمانية عشر شهرا ، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة .

10155 - ذكر سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : صلى أول ما صلى إلى الكعبة ، ثم صرف عنها إلى بيت المقدس ; فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل موته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجج ، وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة البيت الحرام .

[ ص: 212 ] 10156 - وذكر وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يحب أن يحول إلى الكعبة ; فأنزل الله تعالى : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها " [ الآية 144 من سورة البقرة ] فوجه نحو الكعبة وكان يحب ذلك .

10157 - قال أبو عمر : ظاهر هذا الحديث يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس لا قبل ذلك ، والله أعلم .

10158 - وكذلك حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : كان [ ص: 213 ] أول ما نسخ الله - تعالى - من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله - تعالى - أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر شهرا .

10159 - وذلك كما حدثناه سعيد بن نصر ، وأحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : أول ما نسخ الله تعالى من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ; فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرا ، وكان يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو الله فينظر إليها ، فأنزل الله تعالى : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " [ الآية الكريمة 144 من سورة البقرة ] فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " [ الآية الكريمة 142 من سورة البقرة ] فأنزل الله ، عز وجل : " قل لله المشرق والمغرب " [ الآية الكريمة 142 من سورة البقرة ] وقال : " فأينما تولوا فثم وجه الله " [ الآية الكريمة 115 من سورة البقرة ] وقال الله تعالى : " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " [ الآية الكريمة 143 من سورة [ ص: 214 ] البقرة ] .

10160 - قال ابن عباس : وليميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة .

10161 - قال الله تعالى : " وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " يعني تحويلها على أهل الشرك لا على المصدقين بما أنزل الله تعالى .

10162 - حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا أحمد بن سلمان النجار ببغداد ، قال : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، قال : حدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله ، عز وجل : " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " [ الآية 144 من سورة البقرة ] يقول : إن الكعبة البيت الحرام قبلة إبراهيم والأنبياء ( صلى الله عليهم ) ولكنهم تركوها عمدا .

10163 - وقال في قوله : " وإن فريقا منهم ليكتمون الحق " [ الآية 146 من سورة البقرة ] يقول : يكتمون صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويكتمون أيضا أن القبلة هي الكعبة البيت الحرام .

10164 - ثم قال لنبيه ، صلى الله عليه وسلم : " فلا تكونن من الممترين " [ الآية 147 من سورة البقرة ] يقول : لا تكن في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك وكانت قبلة [ ص: 215 ] الأنبياء .

10165 - وبهذا الإسناد عن أبي العالية أن موسى ( عليه السلام ) كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام ، وكانت الكعبة قبلته ، وكانت الصخرة بين يديه فقال يهودي : بيني وبينك مسجد صالح النبي ( عليه السلام ) . قال أبو العالية : فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة .

10166 - وأخبرني أبو العالية : أنه رأى مسجد ذي القرنين ، وقبلته إلى الكعبة .

10167 - وقد تقدم ما يدل على صحة هذا القول وأن القبلة كانت قبلة إبراهيم وإسماعيل : وكل ما دان بدين إبراهيم وإليها صلى النبي ( عليه السلام ) مذ فرضت عليه الصلاة حتى هاجر إلى المدينة ، وذلك واضح بين فيما تقدم في صدر كتاب الصلاة من هذا الديوان .

10168 - وأجمع العلماء على أن القبلة التي أمر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - وعباده بالتوجه نحوها في صلاتهم هي الكعبة البيت الحرام بمكة .

10169 - قال الله ، عز وجل : " فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره " [ الآية الكريمة 150 من سورة البقرة ] .

10170 - وأجمعوا على أنه فرض واجب على من عاينها وشاهدها استقبالها بعينها ، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها فلا صلاة له .

10171 - أجمعوا أن على من غاب عنها بعد أو قرب أن يتوجه في صلاته نحوها بما قدر عليه من الاستدلال على جهتها من النجوم والجبال والرياح وغيرها .

10172 - وأجمعوا أن من صلى من غير اجتهاد ولا طلب للقبلة ، ثم بان له أنه [ ص: 216 ] لم يستقبل جهتها في صلاته أن صلاته فاسدة . كمن صلى بغير طهارة يعيدها في الوقت وغيره .

10173 - وفي هذا المعنى حكم من صلى إلى غير القبلة في مسجد يمكنه فيه طلب القبلة وعلمها ووجودها بالمحراب وشبهه ولم يفعل وصلى إلى غيرها .

10174 - واختلفوا فيمن غابت عليه القبلة فصلى مجتهدا كما أمر ، ثم بان له بعد ما فرغ من الصلاة أنه قد أخطأ القبلة بأن استدبرها أو شرق أو غرب ، ثم بان له ذلك وهو في الصلاة .

10175 - فجملة قول مالك وأصحابه : أن من صلى مجتهدا على قدر طاقته طالبا للقبلة باجتهاده يؤم ناحيتها إذا خفت عليه ، ثم بان له بعد صلاته أنه قد استدبرها أو شرق أو غرب جدا فإنه يعيد صلاته في الوقت ، فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه .

10176 - والوقت في ذلك للظهر والعصر ما لم تصفر الشمس .

10177 - وقد روي عن مالك : ما لم تغرب الشمس . وفي المغرب والعشاء ما لم ينفجر الصبح ، وفي صلاة الصبح ما لم تطلع الشمس .

10178 - وقد روي عنه : ما لم تسفر جدا .

10179 - ووجه الإعادة في الوقت استدراك الكمال ، وذلك استحباب مؤكد عندهم .

10180 - فإن علم في الصلاة أنه استدبرها أو شرق أو غرب قطع وابتدأ ، وإن لم يشرق ولم يغرب ولكنه انحرف انحرافا يسيرا فإنه ينحرف إلى القبلة إذا علم ويتمادى ويجزئه ولا شيء عليه .

10181 - وقال أشهب : سئل مالك عن من صلى إلى غير القبلة ، فقال : إن [ ص: 217 ] كان انحرف انحرافا شديدا فإن عليه إعادة ما كان في الوقت .

10182 - وقال الأوزاعي : من تحرى فأخطأ القبلة أعاد ما كان في الوقت ولا يعيد بعد الوقت .

10183 - وقال الثوري : إذا صليت لغير القبلة فقد أجزأك إذا لم تعمد ذلك ، وإن كنت صليت بعد صلاتك لغير القبلة ثم عرفت القبلة بعد فاستقبل القبلة بقية صلاتك واحتسب بما صليت .

10184 - وقال المزني عن الشافعي : إذا صلى إلى الشرق ثم رأى القبلة إلى الغرب استأنف ، وإن شرق أو غرب منحرفا ورأى أنه منحرف وتلك جهة واحدة فإن عليه أن ينحرف ويعتد بما مضى .

10185 - وذكر الربيع عن الشافعي قال : ولو دخل في الصلاة على اجتهاده ، ثم رأى القبلة في غير الناحية التي صلى إليها ; فإن كان مشرقا أو مغربا لم يعتد بما مضى من صلاته وسلم واستقبل الصلاة على ما بان له واستيقنه ، وإن رأى أنه انحرف لم يلغ شيئا من صلاته ; لأن الانحراف للمجتهد ليس فيه يقين خطأ وإنما هو اجتهاد لم يرجع منه إلى يقين وإنما رجع إلى اجتهاد شك .

10186 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : من تحرى القبلة فأخطأ ثم بان له ذلك فلا إعادة عليه في وقت ولا في غيره .

10187 - قالوا : وله أن يتحرى القبلة إذا لم يكن على يقين من علم جهتها .

[ ص: 218 ] 10188 - قالوا : ولو صلى قوم على اجتهاد ثم بان لهم بعد ركعة أنهم أخطأوا القبلة صرفوا وجوههم فيما بقي من صلاتهم إلى القبلة وصلاتهم تامة ، وكذلك لو أتموا ثم علموا بعد لم يعيدوا .

10189 - وقال الطبري : من تحرى فأخطأ القبلة أعاد أبدا إذا استدبرها .

10190 - وهو أحد قولي الشافعي .

10191 - قال أبو عمر : قد أوضحنا معنى اختلافهم والوجه المختار منه في " التمهيد " ، والحمد لله .

10192 - وقول الثوري أشبه بظاهر حديث هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية