الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
472 [ ص: 27 ] ( 4 ) باب ما جاء في القرآن

447 - ذكر فيه عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ ; أنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها ، فكدت أن أعجل عليه ، ثم أمهلته حتى انصرف ، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسله " ثم قال : " اقرأ يا هشام " فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا أنزلت " ثم قال لي : اقرأ فقرأتها . فقال : " هكذا أنزلت ; إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه " .


[ ص: 28 ] 10389 - وهذا الحديث قد تكلمنا على إسناده ، وأشبعنا القول في معانيه ، واجتلبنا ما لعلماء السلف والخلف فيه ، واستوعبنا ذلك كله في ( التمهيد ) ونذكر فيه هاهنا ما فيه دلالة كافية إن شاء الله :

10390 - روى هذا الحديث معمر ، ويونس ، وعقيل ، وشعيب بن أبي حمزة ، وابن أخي ابن شهاب ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارئ جميعا ، سمعا عمر بن الخطاب بمعنى حديث مالك ، إلا أن معمرا قال فيه عن عمر : فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، وأنت أقرأتني سورة الفرقان . . " .

10391 - فبان في رواية معمر أن الخلاف بين هشام وعمر كان في حروف من السورة ، وهذا تفسير لرواية مالك ، لأن ظاهرها في قوله يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها ، يقتضي عموم السورة كلها ، وليس كذلك .

10392 - وقد ظهر الخصوص برواية معمر ومن تابعه في ذلك .

10393 - ومعلوم عند الجميع أن القرآن لا يجوز في حروفه كلها ولا في سورة منه واحدة أن تقرأ حروفها كلها على سبعة أوجه ، بل لا توجد في القرآن كلمة تقرأ [ ص: 29 ] على سبعة أوجه إلا قليلا من كثير مثل : " ربنا باعد بين أسفارنا " الآية 19 من سورة سبأ و " وعبد الطاغوت " الآية 60 من سورة المائدة و " إن البقر تشابه علينا " الآية 70 من سورة البقرة و " بعذاب بئيس " الآية 165 من سورة الأعراف ونحو ذلك . وهو يسير في جنب غيره من القرآن .

10394 - وقد اختلف العلماء وأهل اللغة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " نزل القرآن على سبعة أحرف " اختلافا كثيرا تقصيناه في ( التمهيد ) ، ونورد منه هاهنا عيونها إن شاء الله :

[ ص: 30 ] [ ص: 31 ] [ ص: 32 ] [ ص: 33 ] [ ص: 34 ] 10395 - قال الخليل بن أحمد : معنى قوله : " سبعة أحرف " سبع قراءات . [ ص: 35 ] قال : والحرف هاهنا القراءة .

10396 - وقال غيره : هي سبعة أنحاء ، كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن خلاف غيره من أنحائه .

10397 - ذهبوا إلى أن الأحرف أنواع وأصناف ، فمنها : زاجر ، ومنها أمر ، ومنها حلال ومنها حرام ومنها محكم ومنها متشابه ومنها أمثال وغيره .

10398 - واحتجوا بحديث من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى ما ذكروا وهو حديث لا يحتج بمثله لضعفه عند أهل العلم بالحديث ، وقد ذكرته في ( التمهيد ) وذكرت العلة فيه .

10399 - وقد اعترض فيه من جهة النظر قوم من أهل العلم ، منهم : أحمد بن أبي عمران ، وأبو جعفر الطحاوي ، وغيرهما وقالوا : محال أن يكون الحرف كله حراما لا ما سواه وحلالا لا ما سواه ، وآمرا لا ناهيا ، وزاجرا لا مبيحا ، وامتثالا كله .

10400 - وقال آخرون : هي سبع لغات مفترقات في القرآن على لغة العرب .

[ ص: 36 ] كلها يمنها ونزارها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها وكان قد أتي جوامع الكلم .

10401 - وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تأويل هذا الحديث قال : يكون الحرف منها بلغة قبيلة ، والثاني بلغة قبيلة أخرى ، والثالث بلغة قبيلة ثالثة هكذا إلى السبعة .

10402 - قال : وقد يكون بعض الأحياء أسعد بها من بعض ، واحتج بقول عثمان واكتبوه بلغة قريش ، فإنه أكثر ما نزل بلسانهم .

10403 - وقد روي عن عمر أن القرآن نزل بلغة قريش ، كقول عثمان ( رضي الله عنهما ) .

10404 - حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك عن عمر أنه قال : إنما نزل يعني القرآن بلسان قريش .

10405 - وعن ابن عباس نزل القرآن بلغة الكعبين : كعب قريش وكعب خزاعة قيل له وكيف ذلك ؟ قال : كانت دارهم واحدة .

10406 - قال أبو عبيد : يعني أن خزاعة جيران قريش .

10407 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا صالح بن نصر بن مالك الخزاعي ، قال : مر بي شعبة بن الحجاج فقال لي : يا خزاعي ، ألا أحدثك حديثا في قومك حدثنا قتادة عن أبي الأسود الديلي ، قال : نزل [ ص: 37 ] القرآن بلغة الكعبين : كعب بن عمرو ، وكعب بن لؤي .

10408 - قال : وحدثنا صالح ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن بلسان قريش ، ولسان خزاعة وذلك أن الدار واحدة .

10409 - وقال آخرون : هذه اللغات السبع كلها في مضر منها لقريش ، ومنها لكنانة ، ومنها لأسد ومنها لهذيل ، ومنها لنمر ، ومنها لضبة ، ومنها لقيس ومنها لطابخة .

10410 - قالوا : فهذه مضر تستوعب سبع لغات وتزيد على ذلك .

10411 - واحتجوا بقول عثمان : " نزل القرآن بلسان مضر " .

10412 - وأنكر آخرون أن تكون لغة مضر كلها في القرآن لأن منها شاذا [ ص: 38 ] لا يجوز أن يقرأ عليها القرآن ، مثل كشكشة قيس وعنعنة تميم .

10413 - وقد ذكرناها بالشواهد عليها في ( التمهيد ) .

10414 - وروى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف صار منها في عجز هوازن خمسة .

10415 - قال أبو حاتم : عجز هوازن : ثقيف وبنو سعد بن بكر ، وبنو جشم ، وبنو نصر بن معاوية .

10416 - قال أبو حاتم : خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان ربيعة ومضر أخوين .

10417 - قال : وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش ، ثم أدناهم من بطون مضر .

10418 - وقال الكلبي في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " .

10419 - قال : خمسة منها لهوازن ، واثنان لسائر الناس .

10420 - وقال قائلون : لا يجوز أن يكون معنى السبعة الأحرف سبع لغات لأن [ ص: 39 ] العرب لا ينكر بعضها على بعض لغته ، لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي ، وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي ، ولغتهما واحدة ، ومحال أن تنكر على أحد لغته ، وكيف تنكر على امرئ لغة قد جبل عليها ، ومحال أيضا أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا بغير لغته .

10421 - وقالوا : إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة ، نحو : أقبل ، وتعال ، وهلم ، وعجل ، وأسرع وأنظر ، وأخر ، وأمهل .

10422 - وذلك بين في قراءة أبي بن كعب " انظرونا " : " أنظرونا نقتبس من نوركم " وأخرونا وأنسونا نقتبس من نوركم الآية الكريمة 13 من سورة الحديد ، فهذه كلمات كلها متفق مفهومها ، مختلف مسموعها ، وعلى هذا القول أكثر أهل العلم في معنى السبعة الأحرف .

10423 - وأما الآثار المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فهي محتملة التأويل ، وقد ذكرناها في ( التمهيد ) مسندة .

10424 - منها : حديث أبي بن كعب ، وحديث ابن مسعود ، وحديث أبي [ ص: 40 ] الجهيم ، وحديث أبي بكرة ، وحديث أبي هريرة ، وحديث علي بن أبي طالب ( رضوان الله عليهم ) .

[ ص: 41 ] 10425 - وأكثرها طرقا وتواترا حديث أبي بن كعب .

10426 - ولحديث ابن مسعود ، وأبي هريرة طرق أيضا كثيرة ، كلها محتملة للتأويل ، قد نزع بها جماعة من العلماء ، وليس فيها شيء يرفع الإشكال ، ومن أراد الوقوف عليها نظر في ( التمهيد ) إليها .

10427 - ذكر أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن عقيل ، ويونس عن ابن شهاب في الأحرف السبعة قال : هي في الأمر الواحد الذي لا اختلاف فيه .

10428 - وذكر عبد الرزاق عن معمر ، قال : قال الزهري : إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام .

10429 - وروى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود ، قال : [ ص: 42 ] إني سمعت القرأة فرأيتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم ، وإياكم والتنطع والاختلاف ، فإنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال .

10430 - وروى ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : " للذين آمنوا انظرونا " الآية 13 من سورة الحديد ( للذين آمنوا أمهلونا ، للذين آمنوا أخرونا ، للذين آمنوا ارقبونا ) .

10431 - وبهذا الإسناد عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : " كلما أضاء لهم مشوا فيه " الآية 20 من سورة البقرة ( مروا فيه سعوا فيه ) .

10432 - كل هذه الحروف كان يقرؤها أبي بن كعب .

10433 - فهذا معنى السبعة الأحرف المذكورة في الأحاديث عند جمهور أهل الفقه والحديث ، ومصحف عثمان ( رضي الله عنه ) الذي بأيدي الناس هو منها حرف واحد .

10434 - ذكر ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو الطاهر ، قال : سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءات المدنيين والعراقيين اليوم : هل تدخل في الأحرف السبعة ؟ فقال لا إنما السبعة الأحرف كقولك : " أقبل ، هلم ، تعال " أي ذلك قلت أجزأك .

10435 - قال أبو الطاهر : وقاله ابن وهب ، وبه قال محمد بن جرير الطبري .

[ ص: 43 ] 10436 - قال أبو جعفر الطحاوي في ذلك كلاما ذكرته عنه في ( التمهيد ) مختصره أن الأحرف السبعة إنما كانت في وقت خاص ، لضرورة دعت إلى ذلك ، لأن كل ذي لغة كان يشق عليه أن يتحول عن لغته ، ثم لما كثر الناس والكتاب ، ارتفعت تلك الضرورة ، فارتفع حكم الأحرف السبعة ، وعاد ما يقرأ به إلا حرف واحد .

10437 - واحتج بحديث أبي بن كعب ، وحديث عمر مع هشام بن حكيم وما يشبهها ، قد ذكرتها وأمثالها في ( التمهيد ) .

10438 - وقال بعض المتأخرين من أهل العلم باللغة والقرآن ومعانيه : تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة الأولى - يعني الأحرف السبعة - فوجدتها سبعة أنحاء .

10439 - منها : ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل " هن أطهر لكم " { الآية 78 من سورة هود } و ( أطهر لكم ) " ويضيق صدري " الآية 13 من سورة الشعراء و ( يضيق ) ونحو هذا .

10440 - ومنها : ما يتغير معناه ويزول الإعراب ، ولا تتغير صورته ، مثل قوله " ربنا باعد بين أسفارنا " الآية 19 من سورة سبأ ( ربنا باعد بين أسفارنا ) .

10441 - ومنها : ما يتغير معناه من الحروف واختلافها ولا تتغير صورته مثل قوله : [ ص: 44 ] " إلى العظام كيف ننشزها " ، و ( ننشرها ) الآية 259 من سورة البقرة .

10442 - ومنها : ما تتغير صورته ، ولا يتغير معناه كقولك : " كالعهن المنفوش " و ( كالصوف ) الآية 5 من سورة القارعة .

10443 - ومنها : ما تتغير صورته ومعناه مثل قوله : " وطلح منضود " و ( طلع منضود ) الآية 29 من سورة الواقعة .

10444 - ومنها : بالتقديم والتأخير مثل : " وجاءت سكرة الموت بالحق " الآية 19 من سورة ق و ( جاءت سكرة الحق بالموت ) .

10445 - ومنها بالزيادة والنقصان مثل : " تسع وتسعون نعجة " الآية 23 من سورة ص و ( تسع وتسعون نعجة أنثى ) .

10446 - قال أبو عمر : قد ذكرت في ( التمهيد ) أمثلة كثيرة لما ذكر هذا القائل في كل وجه من الوجوه السبعة .

10447 - وذكرت من قرأ بذلك كله من السلف ، بمثل قوله في الزيادة : ( نعجة أنثى ) قوله : " وأما الغلام فكان كافرا وأبواه مؤمنين " الآية 80 من سورة الكهف وقوله " فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد " الآية 33 من سورة النور وهو كثير .

10448 - والذي أقول به إن جمع عثمان ( رضي الله عنه ) في جماعة الصحابة ( رضوان الله عليهم ) القرآن على حرف واحد بكتابة زيد بن ثابت ، إنما حملهم على ذلك ما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام حين اجتمعوا في بعض المغازي ، فخطأت كل طائفة منهم الأخرى فيما خالفتها فيه من قراءتها ، وصوبت ما تعلم من ذلك ، وكان أهل العراق قد أخذوا عن ابن مسعود وأهل الشام قد أخذوا عن [ ص: 45 ] غيره من الصحابة ، فخاف الصحابة ( رحمهم الله ) من ذلك الاختلاف لما كان عندهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن الاختلاف في القرآن ، وأن المراء فيه كفر .

10449 - وقد كانت عامة أهل العراق وعامة أهل الشام ، هموا بأن يكفر بعضهم بعضا ، تصويبا لما عنده ، وإنكارا لما عند غيره ، فاتفق رأي الصحابة وعثمان ( رضوان الله عليهم ) على أن يجمع لهم القرآن على حرف واحد من تلك السبعة الأحرف إذ صح عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كلها شاف كاف " فاكتفوا ( رحمهم الله ) بحرف واحد منها ، فأمر عثمان زيد بن ثابت ذلك ، فأملاه على من كتبه ممن أمره عثمان بذلك على ما هو مذكور في غير موضع .

10450 - وأخبار جمع عثمان المصحف كثيرة ، وقد ذكرنا في ( التمهيد ) منها طرفا .

10451 - وأما جمع أبي بكر للقرآن فهو أول من جمع ما بين اللوحين .

10452 - وجمع علي بن أبي طالب للقرآن أيضا عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وولاية [ ص: 46 ] أبي بكر ، فإنما كل ذلك على حسب الحروف السبعة ، لا كجمع عثمان على حرف واحد ، حرف زيد بن ثابت ، وهو الذي بأيدي الناس بين لوحي المصحف اليوم .

10453 - وفي ( التمهيد ) بيان ما وصفنا عن أبي بكر ، وعن علي ( رضي الله عنهما ) بالآثار الواردة بذلك .

10454 - حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد بمصر ، قال : حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد المشقاصي الفريابي القاضي ، قال : حدثنا أبو جعفر النفيلي ، قال : قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة بينا أنا في المسجد إذ سمعت رجلا يقرؤها بخلاف قراءتي ، فقلت : من أقرأك هذه السورة ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : لا تفارقني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه ، فقلت : يا رسول الله ، إن هذا قد خالف قراءتي في هذه السورة التي علمتني ، فقال : " اقرأ يا أبي " فقرأت ، فقال : " أحسنت " وقال للآخر : " اقرأ " فقرأ بخلاف قراءتي فقال له : " أحسنت " ثم قال : " يا أبي ! إنه أنزل على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف " قال فما اختلج في صدري شيء من القرآن .

10455 - روى قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب ، قال : قرأ أبي آية ، وقرأ ابن مسعود خلافها ، وقرأ رجل آخر خلافهما ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث ، وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلكم محسن ( مجمل ) إن [ ص: 47 ] هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، ليس منها إلا شاف كاف وذكر تمام الخبر .

10456 - وذكر " ابن وهب " في كتاب الترغيب من جامعه ، قال : قيل لمالك : أترى أن نقرأ بمثل ما قرأ به عمر بن الخطاب : فامضوا إلى ذكر الله بدلا من قوله " فاسعوا إلى ذكر الله " الآية 9 من سورة الجمعة فقال ذلك جائز ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا منها ما تيسر " .

10457 - وقال مالك : لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا ، قال : وقد كان الناس ولهم مصاحف ، والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف .

10458 - قال ابن وهب : وسألت مالكا عن مصحف عثمان ; فقال ذهب .

10459 - قال أبو عمر : قراءة عمر ( فامضوا إلى ذكر الله ) الآية 9 من سورة الجمعة هي قراءة ابن مسعود .

10460 - وهذه الرواية عن مالك ، خلاف رواية ابن القاسم ، وخلاف ما عليه جماعة الفقهاء أنه لا يقرأ في الصلاة بغير ما في مصحف عثمان بأيدي الناس ، فلذلك قال مالك الذي في رواية أصحابه عنه غير ابن وهب أنه لا يقرأ بحرف ابن مسعود لأنه خلاف ما في مصحف عثمان .

10461 - روى عيسى عن ابن القاسم في المصحف بقراءة ابن مسعود ، قال : أرى أن يمنع الناس من بيعه ، ويضرب من قرأ به ، ويمنع من ذلك .

10462 - قال أبو عمر : الذي عليه جماعة الأمصار من أهل الأثر والرأي ، أنه [ ص: 48 ] لا يجوز لأحد أن يقرأ في صلاته نافلة كانت أو مكتوبة بغير ما في المصحف المجتمع عليه ، سواء كانت القراءة مخالفة له منسوبة لابن مسعود ، أو إلى أبي ، أو إلى ابن عباس ، أو إلى أبي بكر ، أو عمر ، أو مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

10463 - وجائز عند جميعهم القراءة بذلك كله في غير الصلاة ، وروايته ، والاستشهاد به على معنى القرآن ، ويجري عندهم مجرى خبر الواحد في السنن ، لا يقطع على عينه ولا يشهد به على الله تعالى ، كما يقطع على المصحف الذي عند جماعة الناس من المسلمين عامتهم وخاصتهم مصحف عثمان ، وهو المصحف الذي يقطع به ويشهد على الله عز وجل وبالله التوفيق .

10464 - قال أبو عمر : قد ذكرنا في ( التمهيد ) ما في سورة الفرقان من اختلاف القراءات عن السلف والخلف لأن حديث مالك ورد بذكر سورة الفرقان خاصة ، فذكرنا ما فيها من اختلاف حروفها ، مستوعبا بذلك والحمد لله .

[ ص: 49 ] [ ص: 50 ] [ ص: 51 ] [ ص: 52 ] [ ص: 53 ] [ ص: 54 ] 10465 - وفي هذا الحديث ما يدل على أن في جبلة الإنسان وطبعه وإن كان فاضلا أن ينكر ما يعرف خلافه ، وإن جهل ما أنكر من ذلك لأن الذي بيده من ذلك علم يقين فلا يزول عنه إلى غير إلا بمثله من العلم واليقين ، وكذلك لا يسوغ خلافه إلا بمثل ذلك . وفيه بيان ما كان عليه عمر ( رضي الله عنه ) من أنه لا يراعي في ذات الله قريبا ولا بعيدا ولا عدوا ولا صديقا ، وقد كان شديد التفضيل لهشام بن حكيم بن حزام ( رضي الله عنه ) ، ولكنه إذ سمع منه ما أنكره لم يسامحه حتى عرف موضع الصواب فيه ، وكان لا يخاف في الله لومة لائم .

10466 - ذكر وهب عن مالك ، قال : كان عمر إذا خشي وقوع أمر قال : أما ما بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا .

10467 - وفيه بيان استعمالهم لمعنى الآية العامة لهم ولمن بعدهم ، وهي قوله عز وجل : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " الآية 59 من سورة النساء يعني إن كان حيا ، فإن مات فإلى سنته كذا قال أهل العلم بالتأويل ، والله الموفق للصواب .

[ ص: 55 ] وبعد هذا في هذا الباب من الموطأ حديث

التالي السابق


الخدمات العلمية