الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
474 449 - وأما حديثه بعد هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني ، وقد وعيت ما قال . [ ص: 60 ] وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا ، فيكلمني فأعي ما يقول " قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .


10484 - في هذا الحديث ما يبين به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأله أصحابه عن معاني دينهم وغير دينهم ، وأنه كان يجيبهم يصبر لهم ويعلمهم ، وكانت طائفة منهم تسأل وطائفة تحفظ ، وكلهم أدى وبلغ ما علم ولم يكتم ، حتى أكمل الله دينه والحمد لله .

10485 - وكتاب الله أصح شاهد في ذلك يقول الله عز وجل : " يسألونك عن الخمر والميسر " 219 من سورة البقرة " ويسألونك عن اليتامى " 220 من سورة البقرة و " يسألونك ماذا ينفقون " 215 من سورة البقرة وهو كثير في القرآن .

10486 - وفي هذا الحديث نوعان أو ثلاثة من أنواع نزول الوحي .

[ ص: 61 ] 10487 - وقد ورد في غير ما حديث من نزول الوحي أنواع حتى الرؤيا الصالحة جعلها صلى الله عليه وسلم جزءا من أجزاء النبوة ، ولكنه أراد بهذا الحديث نزول ما يتلى والله أعلم .

10488 - وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الوحي إذا نزل سمعت الملائكة صوتا كإمرار [ ص: 62 ] السلسلة على الصفا .

10489 - وفي حديث يوم حنين أنهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست .

10490 - وقالت عائشة : كان أول ما بدئ به رسول الله من الوحي [ ص: 63 ] الرؤيا الصادقة ، كان يرى الرؤيا فتأتي كأنها فلق الصبح .

10491 - وقد كان يبدى له جبريل بين السماء والأرض ، وذلك بين في حديث جابر بن عبد الله .

10492 - وأحيانا يأتيه جبريل في هيئة إنسان ، فيكلمه مشافهة كما يكلم المرء [ ص: 64 ] أخاه ، وذلك بين في حديث عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر في الإيمان [ ص: 65 ] والإسلام ، وحديثه حين جاءه جبريل في صفة دحية الكلبي .

10493 - وفي حديث عمر بن الخطاب ، ويعلى بن أمية ، إذا نزل عليه الوحي يحمر وجهه ويغط غطيط البكر وينفخ .

[ ص: 66 ] 10494 - إلى ضروب كثيرة لست أحصيها ، وقد ذكرنا في ذلك آثارا كثيرة متفرقة في ( التمهيد ) .

10495 - وروى ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب ، أنه سئل عن هذه الآية : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم " الآية 51 من سورة الشورى " .

10496 - قال : ترى هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر كلهم .

10497 - والكلام كلام الله الذي كلم به موسى ( عليه السلام ) من وراء حجاب .

10498 - والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه ، فيثبت الله ما أراد من الوحي في قلب النبي ، فيتكلم به النبي فيكتبه ، فهو كلام الله ووحيه .

10499 - ومنه ما يكون بين الله ورسله ، لا يكلم به أحد من الأنبياء أحدا من الناس ، ولكنه يكون سر غيب بين الله وبين رسله .

10500 - ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتمونه أحدا ولا يؤمرون بكتمانه ، ولكنهم يحدثون به الناس حديثا ، ويبينون لهم أن الله عز وجل أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغوهم إياه .

10501 - ومن الوحي ما يرسل الله من يشاء من ملائكته ، فيوحيه وحيا في قلوب من يشاء من أنبيائه ورسله .

[ ص: 67 ] 10502 - وقد بين في كتابه أنه كان يرسل جبريل إلى محمد ( عليهما السلام ) فقال في كتابه : " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " الآية 97 من سورة البقرة .

10503 - وقال عز وجل : " وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " الآيات 192 - 195 من سورة الشعراء .

10504 - وروي عن مجاهد في قوله عز وجل : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " قال : أن ينفث في نفسه أو من وراء حجاب ، قال : موسى حين كلمه الله أو يرسل رسولا قال : جبريل إلى محمد وأشباهه من الرسل ( صلوات الله عليهم أجمعين ) الآية 51 من سورة الشورى .

10505 - أما قوله في هذا الحديث : " صلصلة الجرس " ، فإنه أراد في مثل صوت الجرس .

والصلصلة : الصوت ، يقال : صلصلة الطست ، وصلصلة الجرس ، وصلصلة الفخار .

10506 - وأما قوله : " فيفصم عني ، فمعناه : ينفرج عني ويذهب عني .

10507 - ويقال : فصم بمعنى ذهب .

10508 - وقيل : فصم كما يفصم الخلخال إذا فتحته لتخرجه من الرجل .

10509 - وكل عقدة حللتها فقد فصمتها .

10510 - قال الله عز وجل : " فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " [ ص: 68 ] الآية 256 من سورة البقرة ، وانفصام العروة أن تنفك عن موضعها .

10511 - وأصل الفصم عند العرب أن تفك الخلخال ولا تبين كسره فإذا كسرته فقد قصمته ( بالقاف ) .

10512 - قال ذو الرمة :


كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم



التالي السابق


الخدمات العلمية