الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
476 451 - وأما حديثه في هذا الباب عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره ، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر : ثكلتك أمك عمر ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر : فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا [ ص: 74 ] يصرخ بي ، قال : فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن قال : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علي هذه الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " [ الفتح : 1 ] .


10526 - قد ذكرنا في ( التمهيد ) من قال فيه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر فأسنده .

10527 - وفيه من وجوه العلم إباحة المشي على الدواب بالليل ، وهذا محمول عند أهل العلم على من لا يمشي بها نهارا ، أو من يمشي بها نهارا بعض المشي ، ويستعمل في ذلك الرفق عند حاجته إلى المشي بالليل لأنها عجم لا [ ص: 75 ] تخبر عن حالها ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإحسان إليها .

10528 - وفيه أن العالم إذا سئل عما لا يريد الجواب فيه إن سكت ولا يجيب ب " نعم " ولا ب " لا " ، ورب كلام جوابه السكوت .

10529 - وفيه من الأدب أن سكوت العالم عن الجواب يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه .

10530 - وفيه الندم على إيذاء العالم والإلحاح عليه خوف غضبه وحرمان فائدته في المستقبل ; وقلما أغضب أحد عالما إلا حرم الفائدة منه .

10531 - قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علما .

10532 - وقالوا : كان أبو سلمة يماري ابن عباس ، فحرم بذلك علما كثيرا .

10533 - وفيه ما كان عليه عمر ( رضي الله عنه ) من التقوى وخوف الله تعالى ، لأنه خشي أن يكون عاصيا لسؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبه ، والمعلوم أن سكوت العالم عن الجواب مع علمه به دليل على كراهة ذلك السؤال .

10534 - وفيه ما يدل على أن السكوت عن السائل يعز عليه ، وهذا موجود في طبائع الناس ، ولهذا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر يؤنسه .

10535 - وفي ذلك ما يدل على منزلة عمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموضعه من قلبه .

[ ص: 76 ] 10536 - وفيه أن غفران الذنوب خير للمؤمنين مما طلعت عليه الشمس لو أعطي ذلك ، وذلك تحقير منه بالدنيا وتعظيم للآخرة ، وهكذا ينبغي للعالم أن يحقر ما حقر الله ويعظم ما عظم الله .

10537 - وإذا كان غفران الذنوب كما وصف ، فمعلوم أنه ( عليه الصلاة والسلام ) لم يكفر عنه إلا الصغائر ، لأنه لا يأتي كبيرة أبدا لا هو ولا أحد من الأنبياء ، لأنهم معصومون من الكبائر صلوات الله عليهم .

10538 - والسفر المذكور في هذا الحديث الذي نزلت فيه سورة الفتح هو منصرفه من خيبر ، وقيل : من الحديبية .

10539 - واختلفوا في قوله " فتحا مبينا " الفتح : 1 فقال قوم : خيبر ، وقال آخرون : الحديبية منحره ومحلقه .

10540 - وقد ذكرنا أقوالهم في تفسير الآية في ( التمهيد ) .

[ ص: 77 ] 10541 - وأما قوله في الحديث : نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن وهب : معناه : أكرهت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة ، أي أتيته بما يكره .

10542 - وقال ابن حبيب : ألححت ، وكررت السؤال ، وأبرمت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

10543 - وقال ابن قتيبة : نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : ألححت عليه قال : ومنه قولهم : أعطى عطاء غير منزور ، أي : بغير إلحاح وأنشد :

[ ص: 78 ]

فخذ عفو ما آتاك لا تنزرنه فعند بلوغ الكدر رنق المشارب

( 1 ) .

10544 - وقد ذكر حبيب عن مالك قال : نزرت راجعت .

10545 - وقال الأخفش : نزرت البئر إذا أكثرت الإسقاء منها حتى يقل ماؤها يقال بئر نزور أي قليلة الماء وكذلك دمع نزور ، ومعناه أنه سأله حتى قطع عليه كلامه فتبرم به .

10546 - وفي إدخال مالك ( رحمه الله ) هذا الحديث في باب ما جاء في القرآن دليل على أنه أراد التعريف بأن القرآن كان ينزل على النبي ( عليه السلام ) على قدر الحاجة وما يعرض له مع أصحابه ، وقد أخبر الله تعالى أنه لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة ، وقد أوضحنا هذا المعنى فيما مضى .

التالي السابق


الخدمات العلمية