الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
477 452 - وأما حديثه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يخرج فيكم [ ص: 79 ] قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى شيئا ، وتنظر في [ ص: 80 ] القدح فلا ترى شيئا ، وتنظر في الريش فلا ترى شيئا ، وتتمارى في الفوق " الحديث على ما في الموطأ .


10547 - وهو حديث مسند صحيح ، يروى من وجوه كثار صحاح ثابتة بمعان متقاربة ، وإن اختلف بعض ألفاظها ، وقد ذكرت كثيرا منها في ( التمهيد ) .

[ ص: 81 ] 10548 - فأول ما في حديث مالك هذا من المعاني أن الخوارج على الصحابة ( رضي الله عنهم ) إنما قيل لهم خوارج لقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " يخرج فيكم " ومعنى قوله فيكم : أي عليكم كما قال تعالى : " في جذوع النخل " طه 71 أي عليكم كما قال تعالى : " جذوع النخل " .

10549 - وكان خروجهم ومروقهم في زمن الصحابة ، فسموا الخوارج ، [ ص: 82 ] وسموا المارقة بقوله في هذا الحديث : " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " . وبقوله ( عليه السلام ) : " تقتتل طائفتان من أمتي تمرق منهما مارقة تقتلها أولى الطائفتين بالحق " ، فهذا أصل ما سميت به الخوارج والمارقة .

[ ص: 83 ] 10550 - ثم استمر خروجهم على السلاطين ، فأكدوا الاسم ثم افترقوا فرقا لها أسماء .

10551 - منهم : الإباضية أتباع عبد الله بن إباض .

10552 - والأزارقة أتباع نافع بن الأزرق .

[ ص: 84 ] 10553 - والصفرية : أتباع النعمان زياد بن الأصفر .

10554 - وأتباع نجدة الحروري يقال لهم : النجدات ، ولم يقل فيهم النجدية ، وما أظن ذلك - والله أعلم - إلا ليفرق بين ما انتسب إلى بلاد نجد وبينهم .

10555 - وفرق سواها يطول ذكرها ، وليس هذا موضعه ، وهم يتسمون بالشراة ولا يسميهم بذلك غيرهم ، بل أسماؤهم التي ذكرناها عنهم مشهورة في الأخبار والأشعار .

[ ص: 85 ] 10556 - قال عبد الله بن قيس الرقيات :


ألا طرقت من آل بثنة طارقه على أنها معشوقة الدل عاشقه     تبيت وأرض السوس بيني وبينها
وسولاف رستاق حمته الأزارقه     إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة
حرورية أضحت من الدين مارقه



10557 - والحرورية منسوبة إلى حروراء خرج فيه أولهم على علي رضي الله عنه فقاتلهم بالنهروان وأظهره الله عليهم فقتل منهم ألوفا ، وهم قوم استحلوا بما تأولوا من كتاب الله ( عز وجل ) دماء المسلمين وكفروهم بالذنوب وحملوا عليهم السيف وخالفوا جماعتهم فأوجبوا الصلاة على الحائض ، ولم يروا على الزاني المحصن الرجم ، ولم يوجبوا عليه إلا الحد مائة ، ولم يطهرهم عند أنفسهم إلا الماء الجاري أو الكثير المستبحر إلى أشياء يطول ذكرها قد أتينا على ذكر أكثرها في غير هذا الموضع فمرقوا من الدين بما أحدثوا فيه مروق السهم من الرمية كما قال .

[ ص: 86 ] 10558 - وقد ذكرنا في ( التمهيد ) الحكم فيهم عند العلماء .

[ ص: 87 ] 10559 - روى ابن وهب وغيره عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : ذكرت الخوارج واجتهادهم يعني في الصلاة والصيام وتلاوة القرآن عند ابن عباس فقال : ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى ثم هم يضلون .

10560 - وأما قوله : " يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم " ، فمعناه أنهم لم ينتفعوا بقراءته إذ تأولوه على غير سبيل السنة المبينة له ، وإنما حملهم على جهل السنة ومعاداتها وتكفيرهم السلف ومن سلك سبيلهم وردهم لشهاداتهم ورواياتهم ، تأولوا القرآن بآرائهم فضلوا وأضلوا ، فلم ينتفعوا به ولا حصلوا من تلاوته إلا على ما يحصل عليه الماضغ الذي يبلع ولا يجاوز ما في فيه من الطعام حنجرته .

10561 - وأما قوله : " يمرقون من الدين " فالمروق الخروج السريع كما يخرج السهم من الرمية والرمية الطريدة من الصيد المرمية مثل المقتولة والقتيلة .

10562 - قال الشاعر :


النفس موقوفة والموت غايتها     نصب الرمية للأحداث ترميها



10563 - وقال أبو عبيد : كما يخرج السهم من الرمية قال : يقول خرج السهم ولم يتميز بشيء كما خرج هؤلاء من الإسلام ولم يتمسكوا منه بشيء .

10564 - وقال غيره : قوله في الحديث " ويتمارى في الفوق " دليل على الشك في خروجهم جملة على الإسلام ، لأن التماري الشك ، فإذا وقع الشك في خروجهم لم يقطع عليهم بالخروج الكلي من الإسلام .

10565 - واحتج من ذهب هذا المذهب بلفظة رويت في بعض الأحاديث [ ص: 88 ] الواردة فيهم وفي قوله صلى الله عليه وسلم " يخرج فيكم قوم من أمتي " ، فلو صحت هذه اللفظة كانت شهادة منه ( عليه السلام ) أنهم من أمته .

10566 - حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا مجالد ، قال : حدثنا أبو الوداك واسمه جبر بن نوف ، قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج قوم من أمتي : عند فرقة " أو قال : " عند اختلاف من الناس يقرءون القرآن كأحسن ما يقرأه الناس ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يرمي الرجل الصيد فينفذ الفرث والدم فيأخذ السهم فيتمارى أصابه شيء أم لا ، هم شر الخلق والخليقة تقتلهم أولى الطائفتين بالله أو أقرب الطائفتين إلى الله .

10567 - قال بعض العلماء في هذا الحديث : معنى قوله " يخرج قوم من أمتي " أي في دعواهم .

10568 - قال أبو عمر : أكثر طرق الأحاديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إنما فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تلتقي من أمتي فئتان " أو " تقتتل من أمتي فئتان فبينا هم كذلك إذ مرقت مارقة بينهما يقتلها أولى الطائفتين بالحق " .

[ ص: 89 ] 10569 - وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في ( التمهيد ) .

10570 - قال الأخفش : شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مروقهم من الدين برمية الرامي الشديد الساعد الذي رمى الرمية فأنفذها سهمه وقع في جانب منها وخرج من الجانب الآخر لشدة رميته ، فلم يتعلق بالسهم دم ولا فرث ، وكأن الرامي أخذ السهم فنظر في نصله وهو الحديدة التي في السهم فلم ير شيئا من دم ولا فرث ، ثم نظر في القدح - والقدح : عود السهم - فلم ير شيئا ، ونظر في الريش فلم ير شيئا .

10571 - وقوله : " يتمارى في الفوق " أي يشك إن كان أصاب الدم الفوق أم لا .

10572 - والفوق هو الشيء الذي يدخل فيه الوتر ، قال : يقول : فكما يخرج السهم نقيا من الدم لم يتعلق به منه شيء فكذلك يخرج هؤلاء من الدين يعني الخوارج .

10573 - ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع ، قال : قيل لابن عمر : إن نجدة الحروري يقول إنك كافر وأراد قتل مولاك إذ لم يقل إنك كافر فقال ابن عمر : والله ما كفرت منذ أسلمت .

10574 - قال نافع : وكان ابن عمر حين خرج نجدة يرى قتاله .

10575 - قال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يحرض على قتال الحرورية .

[ ص: 90 ] 10576 - وذكر ابن وهب عن عمر بن الحارث عن بكير بن الأشج ، أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الخوارج ؟ فقال : كان يقول هم شرار الخلق ، انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين .

10577 - وقد ذكرنا في ( التمهيد ) رواية جماعة عن علي ( رضي الله عنه ) أنه سئل عن أهل النهروان أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا قيل فهم منافقون فقال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، قيل : فما هم ؟ قال : قوم ضل سعيهم وعموا عن الحق وهم بغوا علينا ، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم .

10578 - وذكر نعيم بن حماد عن وكيع عن مسعر عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن علي ( رضي الله عنه ) قال : لم نقاتل أهل النهروان على الشرك .

10579 - وعن وكيع عن أبي خالد عن حكيم بن جابر عن علي مثله .

10580 - وقد ذكرنا أقاويل الفقهاء في قتال الخوارج وأهل البغي والحكم فيهم بعد ذكر سيرة علي ( رضي الله عنه ) فيهم وفي غيرهم ممن قاتله في حين قتاله لهم مبسوطة في ( التمهيد ) والحمد لله .

10581 - وفي هذا الحديث نص على أن القرآن قد يقرؤه من لا دين له ولا خير فيه ولا يجاوز لسانه ، وقد مضى هذا المعنى عند قول ابن مسعود : وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده .

[ ص: 91 ] 10582 - وذكرنا هناك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثر منافقي أمتي قراؤها " ، وحسبك بما ترى من تضييع حدود القرآن وكثرة تلاوته في زماننا هذا بالأمصار وغيرها مع فسق أهلها ، والله أسأله العصمة والتوفيق والرحمة ، فذلك منه لا شريك له .

التالي السابق


الخدمات العلمية