الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
38 - مالك ، أنه بلغه ، أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد دخل على عائشة ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم مات سعد بن أبي وقاص ، فدعا بوضوء . فقالت له عائشة : يا عبد الرحمن ! أسبغ الوضوء . فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ويل للأعقاب من النار " .


[ ص: 47 ] 1331 - هذا الحديث يروى متصلا مسندا عن النبي - عليه السلام - من وجوه شتى من حديث عائشة ، ومن حديث أبي هريرة ، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي . وقد ذكرتها كلها في " التمهيد " ، والحمد لله .

1332 - وحديث عبد الله بن عمرو ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن الحارث بن جزء لا علة في شيء من أسانيدها ولا مقال .

1333 - وفيه من الفقه : غسل الرجلين .

1334 - وفي ذلك تفسير لقوله تعالى : " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " [ المائدة : 6 ] فرويت بخفض " أرجلكم " ونصبها ، وفي هذا الحديث دليل على أن المراد بذلك غسل الأرجل لا مسحها ؛ لأن المسح ليس شأنه استيعاب الممسوح ، فدل على أن من جر ( الأرجل ) عطفها على اللفظ لا على [ ص: 48 ] المعنى ، والمعنى فيهما الغسل ، على التقديم والتأخير . كأنه قال : فاغسلوا وجوهكم ، وأيديكم إلى المرافق ، وأرجلكم إلى الكعبين ، وامسحوا برءوسكم . والقراءتان صحيحتان مستفيضتان .

1335 - ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح ، وغير جائز أن تبطل إحدى القراءتين بالأخرى ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل ، أو العطف على اللفظ .

1336 - وكذلك قال أشهب ، عن مالك أنه سئل عن قراءة من قرأ : " وأرجلكم " بالخفض . فقال : هو الغسل .

1337 - وهذا التأويل تعضده سنة رسول الله المجتمع عليها بأنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة ، ومرتين ، وثلاثا .

1338 - وجاء أمره في ذلك موافقا لفعله فقال : " ويل للعراقيب من النار ، ويل للعراقيب وبطون الأقدام من النار " .

1339 - وقد ذكرنا الألفاظ بهذه الآثار مسندة في " التمهيد " .

1340 - وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار والإتباع على اللفظ بخلاف المعنى والمراد عندها المعنى ، كما قال امرؤ القيس :

كبير أناس في بجاد مزمل

فخفض بالجوار ، وإنما المزمل الرجل والإعراب فيه الرفع ، وكذلك قوله أيضا : [ ص: 49 ]

صفيف شواء أو قدير معجل

وكان الوجه أن يقول : أو قديرا معجلا ، ولكنه خفض للإتباع .

1341 - وكما قال زهير :

لعب الزمان بها وغيرها     بعدي سوافي المور والقطر

قال أبو حاتم : كان الوجه ( والقطر ) بالرفع ، ولكنه جره بالجوار على ( المور ) ، كما قالت العرب : هذا جحر ضب خرب .

1342 - ومن هذا قراءة أبي عمرو : " يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس " [ الرحمن : 35 ] بالجر ، لأن النحاس هو الدخان . وقراءة يحيى بن وثاب : " ذو القوة المتين " بالخفض .

1343 - ومن هذا أيضا قول النابغة : [ ص: 50 ]

لم يبق غير طريد غير منفلت     أو موثق في حبال القد مسلوب

فخفض .

1344 - ومثله قوله الآخر :

فهل أنت إن ماتت أتانك راحل     إلى آل بسطام بن قيس فخاطب ؟

بكسر الباء .

1345 - ومنه أيضا قول الشاعر :

حي دارا أعلامها بالجناب     مثل ما لاح في الأديم الكتاب

فجر ( الكتاب ) بالجوار ل ( الأديم ) وموضعه الرفع ب ( لاح ) ، وقد يكون ( الكتاب ) مخفوضا ردا على ( ما ) بدلا من ( ما ) .

1346 - وقد يراد بالمسح الغسل من قول العرب : تمسحت للصلاة ، والمراد : الغسل .

1347 - وعلى هذا التأويل الذي ذكرنا في إيجاب غسل الرجلين جمهور العلماء ، وجماعة فقهاء الآثار .

[ ص: 51 ] 1348 - وإنما روي مسح الرجلين عن بعض الصحابة ، والتابعين ، وتعلق به بعض المتأخرين .

1349 - ولو كان مسح الرجلين يجزئ ما أتى الوعيد بالنار على من لم يغسل عقبيه وعرقوبيه ، أو فاته شيء من بطون قدميه لأنه معلوم أنه لا يعذب بالنار إلا على ترك الواجب .

1350 - وقد أجمع المسلمون أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه : من قال منهم بالمسح ، ومن قال بالغسل ، فاليقين ما أجمعوا عليه .

1351 - واختلاف العلماء في دخول الكعبين في غسل الرجلين - كما ذكرنا في دخول المرفقين في الذراعين ، وجملة مذهب مالك وتلخيص مذهبه في ذلك أن المرفقين إن بقي شيء منهما مع القطع غسل .

1352 - قال : وأما الكعبان إذا قطعت الرجل على السنة في سرقة أو خرابة فهما باقيان في القطع ، ولا بد من غسلهما مع الرجلين .

1353 - والكعبان : هما الناتئان في طرف الساق .

1354 - وعلى هذا مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وداود في الكعبين .

1355 - وقال الطحاوي : للناس في الكعبين ثلاثة أقوال :

1356 - فالذي يذهب إليه محمد بن الحسن أن في القدم كعبا وفي الساق كعبا ، ففي كل رجل كعبان .

[ ص: 52 ] 1357 - قال : وغيره يقول : في كل قدم كعب ، وموضعه ظهر القدم مما يلي الساق .

1358 - قال : وآخرون يقولون : الكعب : هو الدائر بمغرز الساق ، وهو مجتمع العروق من ظهر القدم على العراقيب .

1359 - قال : والعرب تقول : الكعبان هما العرقوبان .

1360 - قال أبو عمر : احتج بعض من قال في الكعبين بقولنا بحديث النعمان بن بشير ، قال : " أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم قال : فلقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه " .

1361 - والعرقوب : هو مجمع مفصل الساق والقدم . والعقب : هو مؤخر الرجل تحت العرقوب .

1362 - وقال مالك : ليس على أحد تخليل الأصابع من رجليه في الوضوء ولا في الغسل ، ولا خير في الجفاء والغلو ، رواه ابن وهب ، وغيره عنه .

1363 - قال ابن وهب : تخليل أصابع رجليه في الوضوء مرغب فيه ، ولا بد من ذلك في أصابع اليدين . وإن لم يخلل أصابع رجليه فلا بد من إيصال الماء إليها .

[ ص: 53 ] 1364 - وقال ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ في نهر فحرك رجليه في الماء : إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه .

1365 - قال ابن القاسم : وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأ .

1366 - قال أبو عمر : يلزم من قال : إن الغسل لا يكون إلا بمرور اليدين أن يقول : لا يجزئه غسل إحداهما بالأخرى .

1367 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - " أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره " .

1368 - وهذا عندنا محمول على الكمال .

1369 - وقد روي عن ابن وهب قال : لما حدثت مالكا بحديث المستورد بن شداد عن النبي - عليه السلام - " أنه كان يخلل أصابع رجليه " رأيته يتعهد ذلك في وضوئه .

التالي السابق


الخدمات العلمية