الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
493 469 - وأما حديثه عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول : " اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ، اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك " .


[ ص: 138 ] 10762 - فقد أسندناه من طرق في ( التمهيد ) .

10763 - وأما قوله " فالق الإصباح " فمعناه فالق الصبح عن النهار كما يفلق الحب عن النوى عن النبات والفلق فلق الصبح .

10764 - وقوله " جاعل الليل سكنا " قول الله عز وجل " لتسكنوا فيه " يونس 67 .

10765 - وقوله " والشمس والقمر حسبانا " فروي عن عكرمة وقتادة والضحاك أنهم قالوا : يدوران في حساب يجريان فيه إلى غايته .

10766 - وقال مجاهد : وكمثل قوله تعالى " كل في فلك يسبحون " الأنبياء 33 ومثل قوله " الشمس والقمر بحسبان " الرحمن 1 قال : كحسبان الرحا .

10767 - وقال أبو مالك : عليهما حساب وآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا .

[ ص: 139 ] 10768 - وقال أهل العربية : حسبان بمعنى حساب ، أي جعلهما يجريان بحساب معلوم .

10769 - قالوا : وقد يكون حسبان جمع حساب ، مثل شهاب وشهبان .

10770 - وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " اقض عني الدين " فمعناه ديون الناس ، ويدخل مع ذلك ما لله عليه من فرض أن يعينه على ذلك كله .

10771 - وقال : دين الله أحق أن يقضى .

10772 - وروي عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه كان يستعيذ بالله من غلبة الدين وغلبة الرجال .

10773 - وهذا الأظهر فيه من دين بني آدم .

[ ص: 140 ] 10774 - وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم .

10775 - ويستعيذ بالله من الفقر والفاقة والذلة .

10776 - وكان يدعو الله : " إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى " .

10777 - وأما قوله : " أغنني من الفقر " مع قوله ( عليه السلام ) : " اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ولا تجعلني جبارا شقيا " فإن هذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوة والكفاف ، ولا يستقر معه في النفس غنى ، لأن الغنى عنده غنى النفس .

10778 - ثبت عنه من حديث أبي هريرة أنه قال : " ليس الغنى عن كثرة [ ص: 141 ] العرض ، إنما الغنى غنى النفس " .

10779 - وقد جعله الله ( عز وجل ) غنيا وعدده عليه فيما عدده من نعمة ، فقال : " ووجدك عائلا فأغنى " الضحى 8 ، ولم يكن غناه أكثر من إيجاد قوت سنة لنفسه وعياله ، وكان الغنى كله في قلبه ثقة بربه وسكونا إلى أن الرزق مقسوم يأتيه منه ما قدر له .

10780 - وكذلك قال ( عليه السلام ) لعبد الله بن مسعود : " يا عبد الله ، لا يكثر همك ما يقدر يكن وما يقدر يأتيك " .

10781 - وقال : " إن روح القدس نفث في روعي فقال : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم " .

10782 - فغنى النفس يعين على هذا كله ، وغنى المؤمن الكفاية وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ولم يرد بهم إلا الذي هو أفضل لهم " .

[ ص: 142 ] 10783 - وقال : " ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " .

10784 - وقال أبو حازم : إذا كان ما يكفيك لا يغنيك ، فليس في الدنيا شيء يغنيك .

10785 - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من فقر مسرف وغنى مطغ .

10786 - وفي هذا دليل بين أن الغنى والفقر طرفان وغايتان مذمومتان .

10787 - وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر " .

10788 - والكلام في هذا يتسع جدا ، والآثار فيه كثيرة ، وربما كان في ظواهر أكثرها تعارض وعلى هذا التخريج تتقارب معانيها .

10789 - وقد أوضحنا هذا المعنى في الفقر والغنى بالآثار المرفوعة وبما روي فيه عن علماء السلف في تفضيل الغنى وحمد الفقر في كتاب بيان العلم ما فيه كفاية لمن تدبره .

10790 - وليس في قول الله تعالى ذكره حاكيا عن موسى : " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " القصص 24 تفضيل الغنى على الفقر ، لأن جميع خلقه يفتقرون إلى رحمته ، ولا غنى لهم عن رزقه ، فمن أعطاه الله الكفاية فقد تمت له منه العناية ، ومن أتاه الله من رزقه سعة فواجب شكره عليه وحمده ، كما يجب الصبر على من امتحن بالقلة والفقر ، لأن الفرائض وحقوق المال ونوافل الخير تتوجه إلى ذي الغنى ومؤنة ذلك ساقطة عن الفقير والقيام بها فضل عظيم والصبر [ ص: 143 ] على الفقر والرضا به ثواب جسيم .

10791 - قال الله ( عز وجل ) : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " الزمر 10 .

10792 - وقد قال الحكماء : خير الأمور أوساطها .

10793 - فالزيادة الكثيرة على القوت والكفاية ذميمة ولا تؤمن فتنتها ، والتقصير عن الكفاف محنة وبلية لا يأمن صاحبها فتنتها أيضا ولا سيما صاحب العيال .

10794 - وروي عن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) أنه سئل عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء " فقال : جهد البلاء كثرة العيال وقلة المال .

10795 - وأما قوله : " وأمتعني بسمعي وبصري " فالسمع والبصر من نعم الله العظام على عبده وعلى جميع خلقه ، ونعم الله واجب استدامتها بالشكر والدعاء والحمد والثناء .

10796 - وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ما يعارض هذا ظاهره ، وليس بمعارض له وهو قوله ( عليه السلام ) حاكيا عن ربه : " إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب ، لم يكن له جزاء إلا الجنة " .

[ ص: 144 ] 10797 - وهذا من العزاء والحض على الصبر عند البلاء .

10798 - وقال مطرف بن الشخير : لأن أعافى وأشكر أحب إلي من أن أبتلى وأصبر .

10799 - وفي الاقتناع بالصبر قوة على كثير من أعمال البر منها تلاوة القرآن في المصحف وما لا يحصى لمن زينه الله بالتقوى ، وفي السمع مثل ذلك من التنعم بسماع الذكر وسماع ما يسر .

10800 - وقوله : " وقوتي في سبيلك " فإنه يروى وقوني في سبيلك ، ويروى وقوتي وهو الأكثر عند الرواة ، ومعناه القوة على العمل بطاعتك والشكر لنعمتك .

10801 - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يسأل الله العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة . والغنى عندهم من العافية لأنها اسم جامع لكل خير .

10802 - والدعاء رأس العبادة ، والله يحب أن يسأل ، وقد أمر أن يسأل من فضله لقوله عز وجل : " واسألوا الله من فضله " النساء 32 .

التالي السابق


الخدمات العلمية