الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
524 [ ص: 217 ] ( 3 ) باب المشي أمام الجنازة

491 - مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة .


11140 - لم يختلف أصحاب مالك في إرسال هذا الحديث عنه عن ابن شهاب .

11141 - ولم يختلف أصحاب ابن عيينة عليه في توصيله مسندا رووه عنه عن الزهري عن سالم عن أبيه .

[ ص: 218 ] 11142 - وقد تابعه ابن أخي الزهري وغيره .

11143 - واختلف فيه سائر أصحاب ابن شهاب على ما ذكرناه في ( التمهيد ) والحمد لله .

11144 - وأردف مالك هذا الحديث بحديثه عن محمد بن المنكدر عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير ، أنه أخبره أنه رأى عمر بن الخطاب يقدم الناس أمام الجنازة في جنازة زينب بنت جحش .

11145 - وعن هشام بن عروة أنه قال : ما رأيت أبي قط في جنازة إلا أمامها قال : ثم يأتي البقيع فيجلس حتى يمروا عليه .

11146 - وعن ابن شهاب أنه قال : المشي خلف الجنازة من خطإ السنة .

[ ص: 219 ] 11147 - فأورد مالك في هذا الباب السنة وعمل الخلفاء بذلك ومن بعدهم واشتهار ذلك بالمدينة عندهم ، حتى جعله ابن شهاب مع علمه بآثار من مضى سنة مسنونة وجعل ما خالفها خطأ .

11148 - وهذا كله خلاف ما ذهب إليه أهل العراق من الكوفيين وغيرهم ، فأجازوا المشي خلفها وعن يمينها وعن يسارها وأمامها .

11149 - واختلف العلماء في الأفضل من ذلك ، فقال مالك بن أنس والليث بن سعد والشافعي وأصحابهم : السنة المشي أمام الجنازة ، وهو الأفضل ، وبه قال أحمد بن حنبل .

11150 - وقال الثوري : لا بأس بالمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وشمالها إلا أن المشي عندهم خلفها أفضل .

11151 - وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم حديث علي من رواية عبد الرحمن بن أبزى قال : كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها ، فقلت له في ذلك ، فقال : إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة ، وإنهما ليعلمان ذلك ولكنهما يسهلان على الناس .

11152 - وقد ذكرنا إسناده في ( التمهيد ) من حديث عبد الرزاق وغيره عن الثوري .

11153 - قال عبد الرزاق : وبه يأخذ الثوري .

[ ص: 220 ] 11154 - وروى أبو سعيد الخدري عن علي مثله بمعناه ، وزاد : قال لي علي : يا أبا سعيد ، إذا شهدت جنازة فقدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك ، فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة .

11155 - ومن حديث ابن مسعود أنه كان يقول : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة ، فقال : " الجنازة متبوعة وليست بتابعة وليس معها من تقدمها " .

11156 - ومن حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : " الراكب يسير خلف الجنازة ، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها [ ص: 221 ] ويسارها قريبا منها " .

11157 - ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " امشوا خلف الجنازة " .

11158 - فهذا ما جاء من الآثار المرفوعة في هذا الباب ، وهي كلها أحاديث كوفية لا تقوم بأسانيدها حجة ، وقد ذكرناها بأسانيدها وعللها في ( التمهيد ) .

11159 - وروي عن أنس بن مالك ، ومعاوية بن قرة ، وسعيد بن جبير أنهم كانوا يمشون خلف الجنازة .

11160 - وروي عن نافع مولى ابن عمر أنه قال : قلت لابن عمر : كيف المشي في الجنازة ؟ فقال : أما تراني أمشي خلفها ؟ .

11161 - فهذا يعارضه حديث ابن شهاب المذكور في هذا الباب ، وحديث أهل المدينة أثبت ، والله أعلم .

[ ص: 222 ] 11162 - وأما الصحابة - رضي الله عنهم - فروي عن عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، والحسن بن علي ، وابن الزبير ، وأبي أسيد الساعدي ، وأبي قتادة الأنصاري أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة .

11163 - وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن يعقوب بن إبراهيم عن محمد بن المنكدر قال : ما رأيت أحدا ممن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهم يمشون أمام الجنازة ، حتى أن بعضهم لينادي بعضا ليرجع إليهم .

11164 - ذكر ابن المبارك عن موسى الجهني قال : سألت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المشي بين يدي الجنازة ، فقال : كنا نمشي بين يدي الجنازة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرون بذلك بأسا .

11165 - وأما التابعون ، فروي عن السائب بن يزيد وعبيد بن عمير ، وشريح القاضي ، والأسود بن يزيد ، وسالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وسليمان بن يسار ، وسائر الفقهاء السبعة المدنيين ، وبشر بن سعيد ، وعطاء بن يسار ، وابن شهاب ، وربيعة ، وأبي الزناد أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة .

11166 - وذكر هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال لأبي وائل : أكان أصحابك يمشون أمام الجنازة ؟ قال : نعم .

11167 - قال أبو عمر : المشي أمام الجنازة أكثر عن العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين ، وهو مذهب الحجازيين ، وهو الأفضل إن شاء الله ، ولا بأس عندي بالمشي خلفها وحيث شاء الماشي منها ، لأن الله عز وجل لم يحظر [ ص: 223 ] ذلك ولا رسوله ولا أعلم أحدا من العلماء كره ذلك ، ولا ذكر أن مشي الماشي خلف الجنازة يحبط أجره فيها ويكون كمن لم يشهدها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شيع جنازة وصلى عليها ، كان له قيراط من الأجر ، ومن قعد حتى تدفن كان له قيراطان ، والقيراط كأحد " ولم يخص الماشي خلفها من الماشي أمامها .

11168 - ومن عمل العلماء بالعراق والحجاز قرنا بعد قرن مما ذكرنا عنهم ما يدل على قولنا ، وبالله توفيقنا .

11169 - ومن استحب المشي أمامها ، فإنما ذلك عنده على الرجال لا على النساء .

11170 - روى أشهب عن مالك أنه سأله عن قول ابن شهاب : المشي خلف الجنازة من خطأ السنة أذاك على الرجال والنساء ؟ فقال : إنما ذلك للرجال ، وكره أن يتقدم النساء أمام النعش أو أمام الرجال .

11171 - قال أبو عمر : قد كره جماعة من العلماء شهود النساء الجنائز على كل حال ، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في ذلك ووجوه أقوالهم في ( التمهيد ) والحمد لله .

11172 - وأما قوله في الحديث : كانوا يمشون أمام الجنازة دليل على أن الأغلب من العمل في ذلك المشي لا الركوب ، وكذلك ينبغي لكل مستطيع على المشي مع الجنازة أن يمشي معها ولا يركب إلا من عذر .

11173 - قال ابن شهاب : ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة قط .

[ ص: 224 ] 11174 - وروي عن ثوبان أنه رأى قوما يركبون في جنازة ، فقال : أما يستحيون أن الملائكة لتمشي وأنتم على ظهور الدواب ؟ .

11175 - وعن ابن عباس : الراكب مع الجنازة كالجالس في بيته إلا أن تكون به علة .

11176 - وعن عبد الله بن رباح قال : للماشي قيراطان ، وللراكب قيراط .

11177 - قال أبو عمر : ليس الركوب بمحظور ، ولكن المشي لمن قدر عليه أفضل إن شاء الله ، والدليل على جواز الركوب - وإن كانت السنة المشي كالجمعة والعيدين - حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الراكب يسير خلف الجنازة " الحديث .

11178 - حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سليمان وسفيان ، قالوا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع عن سعيد بن عبيد عن زياد بن جبير عن أبيه عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي منها حيث شاء " .

التالي السابق


الخدمات العلمية