الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
552 513 - عن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عتيك بن الحارث ، وهو جد عبد الله بن عبد الله بن جابر أبو أمه ، أنه أخبره أن جابر بن عتيك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت ، فوجده قد غلب عليه ، فصاح به فلم يجبه ، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : غلبنا عليك يا أبا الربيع ، فصاح النسوة وبكين فجعل جابر يسكتهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية ، قالوا يا رسول الله : وما الوجوب ؟ قال إذا مات ، فقالت ابنته : والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدا فإنك كنت قد قضيت جهازك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته ، وما تعدون الشهادة ؟ قالوا : القتل في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشهداء سبعة سوى القتل في [ ص: 311 ] سبيل الله : المطعون شهيد ، والغرق شهيد ، وصاحب ذات الجنب شهيد ، والمبطون شهيد ، والحرق شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بجمع شهيد .


11636 - ولم يختلف الرواة للموطأ فيما علمت في إسناد هذا الحديث ولا في متنه إلا أن غير مالك يقول فيه : دعهن يبكين ما دام عندهن .

11637 - وفي حديث مالك من الفقه معان حسنة منها .

11638 - عيادة الفضلاء من الخلفاء وغيرهم المرضى تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

11639 - وفي فضل عيادة المرضى أحاديث كثيرة حسان ، وهي سنة مسنونة مندوب إليها لا خلاف عن العلماء فيها .

11640 - وفيه جواز مناداة العليل ليجيب عن حاله فإن لم يقدر على الإجابة فلا بأس بالاسترجاع عليه حينئذ وإن كان يسمع بدليل هذا الحديث .

11641 - والاسترجاع على المصيبة سنة .

11642 - قال الله عز وجل : " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " البقرة 156 .

11643 - وفيه تكنية الرئيس الكبير لمن دونه ، ألا ترى قوله عليه السلام : " غلبنا عليك يا أبا الربيع " ولم يستكبر عن ذلك من الخلفاء والأمراء إلا من حرم التقوى .

[ ص: 312 ] 11644 - وفيه إباحة البكاء على المريض بالصياح وغير الصياح عند حضور وفاته .

11645 - ألا ترى إلى قوله فصاح النسوة وبكين ، فجعل جابر يسكتهن .

11646 - وتسكيت جابر لهن والله أعلم ، لأنه كان قد سمع النهي عن البكاء على الموتى ، فاستعمل ذلك على عمومه ، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعهن يبكين حتى يموت ، فإذا مات فلا تبكين باكية " .

11647 - وهذا معنى قوله " فإذا أوجب فلا تبكين باكية " يريد لا ترفع صوتها بالبكاء باكية ، وذلك مفسر في الحديث .

11648 - وهذا دليل على جواز البكاء على الموتى في تلك الحال وإن النهي عن البكاء عليهم هذا معناه والله أعلم .

11649 - حدثنا سعيد قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا الفضل بن دكين قال : حدثني إسرائيل عن عبد الله بن عيسى عن جابر بن عتيك عن عمه قال : دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على ميت من الأنصار وأهله يبكون عليه ، فقلت : أتبكون عليه وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : دعهن ما دام عندهن ، فإذا وجب فلا يبكين .

11650 - وقوله عليه السلام : " فإذا وجب فلا تبكين باكية " يعني بالوجوب الموت ، فإن المعنى والله أعلم أن الصياح والنياح لا يجوز شيء منه بعد الموت ، وأما دمع العين وحزن القلب فالسنة ثابتة بإباحته وعليه جماعة العلماء .

[ ص: 313 ] 11651 - بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ابنه ، وقال : " إنها رحمة " من حديث جابر ، وحديث أنس .

11652 - وبكى على زينب ابنته ، فقيل له : تبكي ؟ فقال : إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده " من حديث أسامة بن زيد .

[ ص: 314 ] 11653 - وروى أبو إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي عن أبي مسعود الأنصاري ، وثابت بن زيد ، وقرظة بن كعب ، قالوا : رخص لنا في البكاء على الميت من غير نوح .

11654 - وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النوح من حديث عمر ، وحديث علي ، وحديث المغيرة ، وحديث أم عطية ، وحديث أم سلمة ، وحديث أبي مالك الأشعري ، وحديث أبي هريرة ، وغيرهم .

11655 - وأجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال ولا للنساء .

11656 - ورخص الجمهور في بكاء العين في كل وقت .

11657 - وجاء في حديث ابن عمر : " لكن حمزة لا بواكي له " .

11658 - وروى هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يبكي عليها وأنا معه وعمر بن الخطاب فانتهر اللاتي يبكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعهن يابن الخطاب ، فإن النفس مصابة ، والعين دامعة ، والعهد قريب " .

11659 - وفيه أن المتجهز للغزو إذا حيل بينه وبينه يكتب له أجر الغازي ويقع أجره على قدر نيته .

11660 - والآثار بهذا المعنى متواترة صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم منها :

[ ص: 315 ] 11661 - " من كانت له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم كتب له أجر صلاته ، وكان نومه عليه صدقة " .

11662 - ومنها حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك أو غيرها : " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله ، كيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : حبسهم العذر " .

11663 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا بالآثار في كتاب الصلاة والحمد لله .

11664 - وفيه طرح العالم على المتعلم لقوله : " وما تعدون الشهادة " ثم أجابهم بخلاف ما عندهم وقال لهم : الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله ثم ذكرهم .

11665 - وأما قوله " المطعون شهيد " فهو الذي يموت في الطاعون .

11666 - وقد جاء تفسير الطاعون في حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فناء أمتي بالطعن والطاعون ، قالت : أما الطعن فقد عرفناه ، فما الطاعون ؟ [ ص: 316 ] قال : غدة كغدة البعير ، تخرج في المراق والآباط ، من مات منه مات شهيدا " .

11667 - وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده في ( التمهيد ) ، وذكرنا هناك ما كان في معناه من الأحاديث المرفوعة والحمد لله .

11668 - وأما المبطون ، فقيل المحبوق ، وقيل صاحب انخراق البطن بالإسهال .

11669 - وأما الغرق فمعروف ، وهو الذي يموت في الماء .

11670 - وذات الجنب ، قيل هي الشوصة ، وقيل إنها في الجانب الآخر من موضع الشوصة وذلك معروف أنها تكون منها المنية في الأغلب ، وصاحبها شهيد على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 317 ] 11671 - وفي بعض الآثار المجنوب شهيد ، يريد صاحب ذات الجنب يقال له : رجل جنب ( بكسر النون وفتح الجيم ) إذا كانت به ذات الجنب .

11672 - وأما الحرق ، فالذي يموت في النار محترقا من النار .

11673 - والذي يموت تحت الهدم لا يحتاج إلى تفسير .

11674 - وأما قوله " المرأة تموت بجمع شهيد " ففيه قولان لكل واحد منهما وجهان .

11675 - أحدهما : المرأة تموت من الولادة وولدها في بطنها قد تم خلقه .

11676 - وقد ذكرنا الشواهد بذلك في ( التمهيد ) .

11677 - وقيل إذا ماتت من النفاس فهي شهيدة ، سواء ألقت ولدها أو مات وهو في بطنها .

11678 - والقول الآخر : هي المرأة تموت قبل أن تحيض وتطمث ، وقيل بل هي المرأة تموت عذراء لم يمسها الرجال .

11679 - والقول الأول أشهر في اللغة وأكثر عند العلماء .

11680 - وفي جمع لغتان الضم والكسر في العذراء والنفساء معا قيل تموت بجمع وشواهد ذلك في ( التمهيد ) أيضا .

11681 - وقد ذكرنا في الشهادة والشهداء آثارا كثيرة في ( التمهيد ) فيها بيان وشفاء والحمد لله .

[ ص: 318 ] 11682 - وفي هذا الباب أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية