الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
553 514 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أنها سمعت عائشة أم المؤمنين تقول ( وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول : إن الميت ليعذب ببكاء الحي ) فقالت عائشة : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودية يبكي عليها أهلها ، فقال إنكم لتبكون عليها ، وإنها لتعذب في قبرها " .


11683 - اختلف العلماء في قوله " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " فقال منهم قائلون : معناه أن يوصي بذلك الميت فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره .

11684 - وقال آخرون : معناه أن يمدح الميت في ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية أو نحوه من الفتكات والغدرات والغارات والقدرة على الظلم وشبه [ ص: 319 ] ذلك من الأفعال التي هي عند الله ذنوب فهم يبكونه لفقدها ويمدحونه بها ، وهو يعذب من أجلها .

11685 - وقال آخرون في هذا الحديث وفي مثله النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود ونوع هذا من أنواع النياحة ، وأما بكاء العين فلا .

11686 - وذهبت عائشة ( رضي الله عنها ) إلى أن أحدا لا يعذب بفعل غيره وهو الأمر المجتمع عليه لقول الله عز وجل : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " الأنعام 164 .

11687 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة في ابنه : " إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك " .

11688 - وقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وغيرهم أنه قال : يعذب الميت بما نيح عليه .

11689 - وقد ذكرنا الآثار بذلك من طرق شتى في ( التمهيد ) .

[ ص: 320 ] 11690 - ومعناه النهي عن النياحة على الموتى وكل حديث أتى فيه ذكر البكاء ، فالمراد به النياحة عند جماعة العلماء إلا أن الله تعالى يقول : " أضحك وأبكى " النجم 43 .

11691 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب " .

11692 - وقال لعمر إذ نهى النساء عن البكاء : " دعهن يا عمر ، فإن النفس مصابة ، والعين دامعة ، والعهد قريب " .

11693 - ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النياحة ولعن النائحة والمستمعة .

[ ص: 321 ] 11694 - ونهى عن شق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية .

11695 - وقال : " ليس منا من حلق ولا من سلق ولا من خرق " .

11696 - وقال : " ثلاث من أفعال الجاهلية : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الموتى ، والاستسقاء بالأنواء .

11697 - وكل ذلك بالأسانيد مذكور في ( التمهيد ) .

11698 - قال الشافعي ( رحمه الله ) : أرخص في البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة لما في النياحة من تجديد الحزن ومنع الصبر وعظيم الإثم .

11699 - قال : وما ذهبت إليه عائشة ( رضي الله عنها ) أشبه بدلائل الكتاب ، ثم تلا " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " الأنعام 164 وذكر حديث أبي رمثة قال : وما زيد في عذاب الكافر فباستيجابه لا بذنب غيره .

11700 - وقول الشافعي في تصويب عائشة في إنكارها على ابن عمر هو [ ص: 322 ] تحصيل مذهب مالك وما دل عليه الموطأ ، لأنه ذكر فيه حديث عائشة ولم يذكر فيه خلافه ، فمذهب مالك والشافعي في معنى هذا الباب سواء .

11701 - وقال آخرون ، منهم داود بن علي وأصحابه : ما روي عن عمر ، وابن عمر ، والمغيرة ، وعمران بن حصين ، وغيرهم في هذا الباب أولى من حديث عائشة وقولها .

11702 - قالوا : ولا يجوز أن ترد رواية العدل الثقة بمثل هذا من الاعتراض .

11703 - وذكروا نحو ما ذكرنا من الأحاديث في النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب .

11704 - وقالوا : قال الله عز وجل : " ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " التحريم 60 وقال : " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " طه 132 قالوا : فواجب على كل مسلم أن يعلم أهله ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم ، وينهاهم عما لا يحل لهم .

11705 - قالوا : فإذا علم المسلم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النياحة على الميت من الكراهة والنهي عنها والتجديد فيها ولم ينه عن ذلك أهله ونيح عليه عند موته وعلى قبره ، فإنما يعذب بما نيح عليه بفعله ، لأنه لم يفعل ما أمر به ، ولا نهاهم عما نهي عنه ، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره .

11706 - وقال المزني : بلغهم أنهم كانوا يوصون بالبكاء عليهم أو بالنياحة وهي معصية ومن أمر بها ففعلت بعده كانت له ذنبا ، فيجوز أن يجازى بذنبه ذلك عذابا والله أعلم .

[ ص: 323 ] 11707 - وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا زهير عن أسيد بن أبي أسيد عن موسى بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الميت يعذب ببكاء الحي عليه إذا قالت النائحة : واعضداه . . واناصراه . . واكاسياه جيء بالميت وقيل له : أنت عضدها ؟ أنت ناصرها ؟ أنت كاسيها ؟ " .

11708 - فقلت : سبحان الله ، يقول الله تبارك وتعالى : "
ولا تزر وازرة وزر أخرى " الأنعام 164 فقال : ويحك أحدثك عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول هذا ؟ فأينا كذب ؟ والله ما كذبت على أبي موسى ولا كذب أبو موسى على النبي صلى الله عليه وسلم .


11709 - قال أبو عمر : هذا كله في النياحة والصراخ والصياح ، والصحيح الأولى بكاء النفس ودمع العين ، وعلى هذا تهذيب آثار هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية