الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
554 [ ص: 324 ] ( 13 ) باب الحسبة في المصيبة

515 - مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار ، إلا تحلة القسم " .


11710 - هذا الإسناد من أجود أسانيد الآحاد .

11711 - وفي هذا الحديث على حسب ما قيده مالك ( رحمه الله ) في ترجمته من ذكر الحسبة ، وهي الصبر والاحتساب والرضا والتسليم أن المسلم تكفر خطاياه ويغفر له ذنوبه بالصبر على مصيبته . ولذلك خرج عن النار فلم تمسه .

11712 - وقد ذكرنا في ( التمهيد ) أحاديث تعضد هذا المعنى وتشده منها .

11713 - حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " .

[ ص: 325 ] 11714 - ذكر في الحديث لم يبلغوا الحنث ، يعني لم يبلغوا أن تجري عليهم الأقلام بالسيئات .

11715 - فإذا كان الآباء يدخلون الجنة بفضل رحمة الله لأطفالهم ، دل على أن أطفال المسلمين في الجنة ، لأنه يستحيل أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم . ألا ترى إلى قوله " بفضل رحمته إياهم " .

11716 - وعلى هذا جمهور علماء المسلمين إلا المجبرة ، فإنهم يقولون هم في المشيئة .

11717 - وشهد بهذا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني مكاثر بكم الأمم حتى بالسقط يظل محبنطئا يقال له : ادخل الجنة ، فيقول : لا حتى يدخلها أبواي ، فيقال له : ادخل الجنة أنت وأبواك " .

11718 - ومثل ذلك أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صغاركم دعاميص الجنة " .

11719 - وأبين من هذا حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 326 ] " أما يسرك ألا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك ؟ " فقالوا له : يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال : " بل للمسلمين عامة " .

11720 - وروي عن علي ( رضي الله عنه ) في قول الله تعالى ذكره : " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين " المدثر 38 ، 39 قال : أطفال المسلمين .

11721 - وسنذكر الآثار التي يحتج بها فرق الإسلام أهل السنة والمجبرة وغيرهم في الأطفال في باب جامع الجنائز بعد من هذا الكتاب إن شاء الله .

11722 - وأما قوله في حديث مالك " إلا تحلة القسم " فهو لفظ مخرج في التفسير المسند ، لأن القسم المذكور فيه معناه عند العلماء قول الله عز وجل : " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " مريم 71 .

11723 - قال الحسن وقتادة : " حتما مقضيا " : واجبا .

11724 - وكذلك قال السدي . ورواه عن مرة الهمداني عن ابن مسعود .

11725 - وقد اختلف العلماء في الورود المذكور في هذه الآية ، فقال منهم قائلون : الورود : الدخول . وممن قال ذلك : عبد الله بن رواحة ، وعبد الله بن عباس ، على أنه قد اختلف في ذلك عن ابن عباس ، وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهما في ( التمهيد ) .

[ ص: 327 ] 11726 - ذكر ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : الورود الذي ذكره الله تعالى في القرآن : الدخول ليردها كل بر وفاجر .

11727 - ثم قال ابن عباس : في القرآن أربعة أوراد ، قوله تعالى : " فأوردهم النار " هود 98 وقوله : " حصب جهنم أنتم لها واردون " الأنبياء 98 وقوله : " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " مريم 86 وقوله : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 .

11728 - قال ابن عباس : والله لقد كان من دعاء من مضى " اللهم أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما " .

11729 - وعن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الورود هو الدخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، فينج الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا " .

11730 - يقول في ذلك الموضع : يفوز بالسلامة أهل الطاعة ، ويشقى بالعذاب أولي الكفر والمعصية .

11731 - وقال آخرون : الورود الممر على الصراط .

11732 - روى الكعبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 قال : الممر على الصراط .

11733 - وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وكعب الأحبار ، وخالد بن معدان ، وأبي نضرة ، وهو قول السدي .

[ ص: 328 ] 11734 - وروى إسرائيل وشعبة عن السدي أنه سأل مرة الهمداني عن قول الله عز وجل : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 قال : فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد إلا وهو يرد النار ثم يصدرون منها بأعمالهم ، فأولهم كالبرق ، ثم كالريح ، ثم كخطو الفرس ، ثم كالراكب في رحله ، ثم كشد الرجل ، ثم كمشيه " .

11735 - وقفه إسرائيل ، وكان شعبة ربما رفعه وكان كثيرا يرفعه .

11736 - وقال آخرون : هو خطاب للكفار .

11737 - ذكر وكيع عن شعبة عن عبد الرحمن بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 قال : هو خطاب للكفار .

11738 - روي ذلك عن الحسن قال : هو خطاب للمشركين .

11739 - قال أبو عمر : يريد : وإن منكم يا هؤلاء أو نحو ذلك .

11740 - وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها " وإن منهم إلا واردها " ردا على الآيات التي قبلها من الكفار ، قول الله تعالى : " فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها " { 68 - 71 مريم } .

11741 - وقال ابن الأنباري وغيره : جائز في القصة أن يرجع من مخاطبة الغائب إلى لفظ المواجه كما قال عز وجل : " وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " الإنسان 21 ، 22 [ ص: 329 ] فأبدل الله من الكاف الهاء .

11742 - قال أبو عمر : يرجع من مخاطبة الغائب إلى المواجه ، ومن المواجه إلى الغائب كما قال عز وجل : " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " يونس 22 ، وهو كثير في القرآن وأشعار العرب .

11743 - وقال آخرون : الورود إشراف على النار بالنظر إليها ، ثم ينجى منها الفائز ، ويصلاها من قدر عليه دخولها .

11744 - واحتج هؤلاء أو بعضهم بقوله عز وجل : " ولما ورد ماء مدين " القصص 23 أي أشرف عليه ورآه .

11745 - وقال الحسن : هو كقولك وردت البصرة ، وليس الورد الدخول .

11746 - واحتج من ذهب هذا المذهب بقوله عز وجل : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " الأنبياء : 101 .

11747 - ومن قال : الورود الدخول قال : من نجا منها كانت عليه بردا وسلاما ، فقد أبعد عنها .

11748 - واحتجوا أيضا بقوله ( عليه السلام ) : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة .

11749 - وقالت طائفة : إن المؤمن إذا زحزح عن النار لم يرها ولم يردها ويكون ما يناله في الدنيا من الحمى ورودا لها .

11750 - حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا ابن أبي دليم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال : حدثنا يحيى بن يمان عن [ ص: 330 ] عثمان بن الأسود أنه قال : حظ المؤمن من النار ثم قرأ : " وإن منكم إلا واردها " فقال : الحمى في الدنيا الورود ، فلا يردها في الآخرة .

11751 - وقد روي عن أبي هريرة أنه قال : عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه مريضا كان به وعك ، فقال له : " أبشر ، فإن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة " .

11752 - وفي حديث أبي ريحانة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحمى كير من جهنم ، وهي نصيب المؤمن من النار " .

11753 - وإسناد هذين الحديثين في ( التمهيد ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية