الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
43 [ ص: 93 ] ( 3 ) باب الطهور للوضوء .

43 - مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة ، من آل بني الأزرق ، عن المغيرة بن أبي بردة ، وهو من بني عبد الدار . أنه سمع أبا هريرة يقول : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول [ ص: 94 ] الله ! إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ من ماء البحر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " .


1554 - اختلف العلماء في هذا الإسناد ، فقال محمد بن عيسى الترمذي : سألت البخاري عنه فقال : حديث صحيح .

1555 - فقلت له : إن هشيما يقول فيه : المغيرة بن أبي برزة .

[ ص: 95 ] 1556 - فقال : وهم فيه ، إنما هو المغيرة بن أبي بردة .

1557 - وهشيم إنما وهم في الإسناد ، وهو في المقطعات أحفظ .

[ ص: 96 ] 1558 - وقال غير البخاري : سعيد بن سلمة رجل مجهول ، لم يرو عنه غير صفوان بن سليم وحده .

1559 - قال : ولم يرو عن المغيرة بن أبي بردة غير سعيد بن سلمة .

[ ص: 97 ] 1560 - قال أبو عمر : قد روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ، رواه عنه سفيان بن عيينة وغيره .

1561 - ذكر ابن أبي عمرو الحميدي والمخزومي ، عن ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن أبي عبد الله بن أبي بردة : " أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ! إنا نركب البحر " ، وساق الحديث بمعنى حديث مالك .

1562 - وقد ذكرناه في التمهيد ، وهو مرسل لا يصح فيه الاتصال .

1563 - ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة .

1564 - وليس إسناد هذا الحديث مما تقوم به حجة عند أهل العلم بالنقل ، لأن فيه رجلين غير معروفين بحمل العلم في رواية صفوان بن سليم ، وفي رواية يحيى بن سعيد نحو ذلك في المغيرة بن أبي بردة .

1565 - وقد روي هذا الحديث أيضا عن النبي - عليه السلام - من حديث الفراسي : رجل من بني فراس من بني مدلج بإسناد ليس بالقائم أيضا في حديث الليث بن سعد .

1566 - وقد ذكرناه في التمهيد .

[ ص: 98 ] 1567 - والفراسي مذكور في الصحابة غير معروف .

1568 - قال أبو عمر : المغيرة بن أبي بردة كان مع موسى بن نصير في مغازيه بالمغرب ، وكان موسى يؤمره على الجيوش هنالك . وفتح في المغرب فتوحات .

1569 - وهذا إسناد وإن لم يخرجه أصحاب الصحاح فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور ، بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها . وهذا يدلك على أنه حديث صحيح المعنى ، يتلقى بالقبول والعمل الذي هو أقوى من الإسناد المنفرد .

[ ص: 99 ] 1570 - واختلف رواة الموطأ : فبعضهم يقول : من آل بني الأزرق كما قال يحيى ، وبعضهم يقول : من آل الأزرق ، وكذلك قال القعنبي ، وبعضهم يقول : من آل ابن الأزرق وكذلك قال ابن القاسم وابن بكير . وهذا كله غير متضاد .

1571 - وقد جاء عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص : كراهية الوضوء بماء البحر .

1572 - وليس في أحد حجة مع خلاف السنة .

1573 - وقد روى قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي قال : سألت ابن عباس عن الوضوء بماء البحر ، فقال : هما البحران يريد قول الله تعالى : هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج [ الفرقان : 53 ] لا تبال بأيهما توضأت .

1573 - وهذا إجماع من علماء الأمصار الذين تدور عليهم وعلى أتباعهم الفتوى . وكذلك عندهم كل ماء مستبحر كثير غير متغير بما يقع فيه من الأنجاس .

1574 - وهذا موضع القول في الماء واختلاف ما فيه للعلماء .

1575 - فأما الكوفيون فالنجاسة تفسد عندهم قليل الماء وكثيره إذا حلت فيه إلا الماء المستبحر الذي لا يقدر آدمي على تحريك جميعه قياسا على البحر الذي قال فيه رسول الله : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " .

[ ص: 100 ] 1576 - وأما مالك فاختلف عنه في ذلك : فروى المصريون عنه خلاف رواية أهل المدينة .

1577 - فأما رواية أصحابه المصريين عنه فإن ابن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ، ولم يكن غسل ما به من الأذى : أن قد أفسد الماء ، وكذلك جوابه في إناء الوضوء يقع فيه مثل الإبر من البول : إنه يفسده .

1578 - وروي عن مالك في الجنب يغتسل في الماء الدائم الكثير مثل الحياض التي تكون بين مكة والمدينة ولم يكن غسل ما به من الأذى : إن ذلك لا يفسد الماء .

1579 - وهذا مذهب ابن القاسم ، وأشهب ، وابن عبد الحكم ، كلهم يقول : إن الماء القليل يفسده قليل النجاسة ، وإن الماء الكثير لا يفسده إلا ما غلب عليه من النجاسة أو غيرها ، فغيره عن حاله في لونه وطعمه وريحه .

1580 - ولم يحدوا حدا بين القليل والكثير .

1581 - ونحو هذا قال الشافعي ، إلا أنه حد في ذلك حدا ، لحديث القلتين ، فقال : ما كان دون القلتين فحلت فيه نجاسة أفسدته ، وإن لم تظهر فيه وإذا بلغ الماء قلتين لم يفسده ما يحل فيه من النجاسة إلا أن تظهر فيه ، فتغير منه لونا أو طعما أو ريحا .

[ ص: 101 ] 1582 - وحجته فيما ذهب إليه من ذلك حديث عبد الله بن عمر عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة ولم يحمل خبثا " .

1583 - وبعض رواته يقولون : " إذا كان الماء قلتين أو ثلاثا " .

1584 - وقد ذكرنا أسانيد هذا الحديث والعلة فيه في " التمهيد " .

1585 - واحتج الشافعي بأن الماء القليل تلحقه النجاسة إذا حلت فيه وإن لم [ ص: 102 ] يظهر فيه شيء منها بحديث ولوغ الكلب في الإناء ، وبحديث " إذا قام أحدكم من نومه " ، وبنحو ذلك من الأحاديث .

1586 - والقلتان عنده وعند أصحابه نحو خمسمائة رطل على ما قدرهما بعض رواة هذا الحديث .

1587 - واعتمد فيه على قول ابن جريج ، وهو أحد أئمة الحديث والفقه والتفسير . قال فيه : قلتان من قلال هجر .

1588 - وقد تكلم إسماعيل في هذا الحديث ورده بكثير من القول في كتاب " أحكام القرآن " .

1589 - وقد رد الشافعيون عليه قوله في ذلك بضروب من الرد ، وممن نقض ذلك منهم أبو يحيى في كتاب " أحكام القرآن " .

[ ص: 103 ] 1590 - ومذهب إسماعيل في الماء هو مذهب أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم ، وهو خلاف مذهب البصريين من أصحاب مالك في الماء .

1591 - ولو ذهب إسماعيل في ذلك مذهب المصريين المالكيين ما احتاج إلى رد حديث القلتين ، ولا إلى الإكثار في ذلك .

1592 - وروى أهل المدينة عن مالك - ذكر ذلك أبو مصعب ، وأحمد بن المعذل وغيرهما - أن الماء لا تفسده النجاسة التي تحل فيه ، قليلا كان [ ص: 104 ] أو كثيرا ، في بئر أو مستنقع أو إناء إلا أن تظهر فيه وتغيره ، وإن لم يكن ذلك ، فهو طاهر على أصله .

1593 - وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك المصريين ، وإلى هذا مال إسماعيل ، وأبو الفرج ، والأبهري ، وسائر المالكيين البغداديين . وبه قالوا وله احتجوا ، وإليه ذهبوا .

1594 - وذكر ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران : أنه سأل القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة : أيشرب منه أو تغسل منه الثياب ؟ فقالا : انظر بعينك ، فإن رأيته لا يغيره ما وقع فيه فنرجوا ألا يكون به بأس .

1595 - قال : وأخبرني يونس ، عن ابن شهاب : كل ماء فيه فضل عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ به .

1596 - قال : وأخبرني عبد الجبار بن عمر ، عن ربيعة قال : إذا وقعت الميتة في البئر فلم تغير طعمها ولا ريحها فلا بأس أن يتوضأ منها وإن رئي فيها الميتة .

[ ص: 105 ] 1597 - قال : وإن تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها .

1598 - وإلى هذا ذهب ابن وهب ، وروي هذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب - على اختلاف عنهم - وسعيد بن جبير ، وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح ، وإليه ذهب داود بن علي ومن اتبعه ، وهو مذهب أهل البصرة .

1599 - وهو الصحيح عندنا في النظر وثابت الأثر .

1600 - وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد .

1601 - " منها " : حديث أبي هريرة ، وأنس في صب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذنوب على بول الأعرابي إذ بال في المسجد .

[ ص: 106 ] 1602 - ومنها حديث ابن عباس عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " الماء لا ينجسه شيء " .

1603 - " ومنها " حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - أنه سئل عن بئر بضاعة فقيل له : إنه يطرح فيها لحوم الكلاب والعذرة وأوساخ الناس فقال : " الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغيره " .

1604 - وهذا إجماع لا خلاف فيه إذا تغير بما غلب عليه من نجس أو طاهر : أنه غير مطهر .

[ ص: 107 ] 1605 - وقال سهل بن سعد الساعدي : " سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بئر بضاعة بيدي " .

1606 - وقد ذكرنا آثار هذا الباب المسندة وغيرها من أقاويل الصحابة والتابعين في باب إسحاق بن أبي طلحة من التمهيد .

1607 - وذكرنا هناك الحجة لأهل المدينة على الشافعي والكوفيين بما فيه كفاية ، والحمد لله .

[ ص: 108 ] 1608 - وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال [ ص: 109 ] حدثنا محمد بن وضاح ، قال حدثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة الحلبي [ ص: 110 ] بحلب ، قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي [ ص: 111 ] قال : قالوا : يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما ينجي الناس والمحايض والجنب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الماء لا ينجسه شيء " .

1609 - وهذا اللفظ غريب في حديث سعد ، ومحفوظ من حديث أبي سعيد الخدري ، لم يأت به في حديث سهل غير ابن أبي حازم ، والله أعلم .

1610 - وقال قاسم : هذا من أحسن شيء روي في بئر بضاعة .

1611 - وأما قوله عليه السلام : " الحل ميتته " فإن العلماء اختلفوا في معنى ذلك على ما جرى به القول عنهم ، وثبت مفسرا عنهم من مذاهبهم في كتاب الصيد إن شاء الله ، إذ ذلك أولى به .

التالي السابق


الخدمات العلمية