الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
44 44 - مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك ، وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري ، أنها أخبرتها : أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا . فجاءت هرة لتشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت . قالت كبشة : فرآني أنظر إليه . فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ قالت : [ ص: 112 ] فقلت ، نعم . فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها ليست بنجس ، إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات " .

1612 - قال مالك : لا بأس به ، إلا أن يرى على فمها نجاسة .


[ ص: 113 ] 1613 - هكذا قال يحيى : حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ، ولم يتابعه أحد على قوله ذلك ، وهو غلط منه .

1614 - وأما سائر رواة الموطأ فيقولون : حميدة بنت عبيدة بن رفاعة .

[ ص: 114 ] 1615 - إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك : حميدة بنت عبيدة بن رافع .

1616 - والصواب : رفاعة بن رافع الأنصاري .

1617 - وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة بما يجب من ذكره هناك .

1618 - وانفرد يحيى أيضا بقوله : عن خالتها كبشة ، وسائر رواة الموطأ يقولون : عن كبشة ، ولا يذكرون خالتها .

1619 - واختلف في رفع الحاء ونصبها من حميدة : فبعضهم يقول : حميدة وبعضهم يقول : حميدة وهو الأكثر .

1620 - وتكنى حميدة : أم يحيى ، وهي امرأة إسحاق بن عبد الله بن طلحة .

1621 - كذلك ذكر يحيى القطان في هذا الحديث عن مالك .

1622 - وقد ذكرناه بإسناده ومتنه في التمهيد .

1623 - وكذلك قال فيه ابن المبارك عن مالك ، إلا أنه قال : كبشة امرأة أبي قتادة ، وهذا وهم . وإنما هي امرأة ابن أبي قتادة .

[ ص: 115 ] 1624 - وفي هذا الحديث إباحة اتخاذ الهر لانتفاع به ، ومعلوم أن ما جاز الانتفاع به جاز شراؤه وبيعه ، إلا ما خص بدليل وهو الكلب الذي نهي عن ثمنه .

1625 - وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه ، وأن سؤره طاهر .

1626 - وهذا قول : مالك ، والشافعي ، وأصحابهما والأوزاعي ، وأبي يوسف القاضي ، والحسن بن صالح بن حي .

1627 - فإن ظهرت في فمه نجاسة في الماء الذي شرب منه فالجواب فيه ما مضى في الحديث الذي قبل هذا عن العلماء على أصولهم في الماء .

1628 - وفيه دليل على أن ما أبيح لنا اتخاذه فسؤره طاهر ، لأنه من الطوافين علينا .

1629 - ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا ، ومنه قوله تعالى في الأطفال : طوافون عليكم بعضكم على بعض [ النور : 58 ] ولذلك قال ابن عباس في الهر : إنها من متاع البيت .

1630 - وقد ذكرنا الخبر عنه بذلك في التمهيد .

1631 - وطهارة الهر دالة على أنه ليس في حي نجاسة إلا ما قام الدليل على نجاسة عينه بالتحريم ، وهو الخنزير وحده ، وأن النجاسة إنما هي في الميتات والأبوال والعذرات وإذا لم يكن في حي نجاسة بدليل ما وصفنا دل ذلك [ ص: 116 ] على أن الكلب ليس بنجس ، وأنه لا نجاسة في عينه ، لأنه من الطوافين علينا وما أبيح لنا اتخاذه للصيد والزرع والماشية ، فيقاسه الهر .

1632 - وإذا صح هذا صح أن الأمر بغسل الإناء من ولوغه سبعا ، عبادة لا لنجاسة .

1633 - وسيأتي القول في هذا المعنى عند حديث الكلب إن شاء الله .

1634 - وقد روي عن عائشة عن النبي - عليه السلام - : " أنه كان تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه ، ثم يتوضأ بفضلها " ، وهو حديث لا بأس به .

1635 - وكذلك حديث أبي قتادة هذا لا بأس بإسناده أيضا .

1636 - وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس ولا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب : العباس بن عبد المطلب ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وأبو قتادة ، والحسن ، والحسين ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وعكرمة ، وعمار بن ياسر .

1637 - واختلف في ذلك عن أبي هريرة ، والحسن البصري : فروى عطاء [ ص: 117 ] عن أبي هريرة : أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا ، وروى أبو صالح ذكوان عن أبي هريرة قال : السنور من أهل البيت .

1638 - وروى أشعث ، عن الحسن : أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور .

1639 - وروى يونس ، عن الحسن أنه قال : يغسل الإناء من ولوغه ، وهذا يحتمل أن يكون رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه .

1640 - ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله روي عنه في الهر : أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه .

1641 - وأما التابعون ؛ فروينا عن عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين : أنهم أمروا بإراقة ما ولغ فيه الهر ، وغسل الإناء منه .

1642 - وسائر التابعين بالحجاز ، والعراق ، يقولون في الهر : إنه طاهر لا بأس بالوضوء من سؤره .

1643 - وروى الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة ، عن ابن المسيب ، والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر .

1644 - قال الوليد : فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي ، ومالك بن أنس ، فقالا : توضأ ، فلا بأس به وإن وجدت غيره .

[ ص: 118 ] 1645 - وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الذي صار إليه جل أهل الفتوى من أهل الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا : إنه لا بأس بسؤر السنور ، اتباعا للحديث الذي رويناه ، يعني عن أبي قتادة عن النبي - عليه السلام - .

1646 - قال : وممن ذهب إلى ذلك مالك في أهل المدينة ، والليث [ ص: 119 ] في أهل مصر ، والأوزاعي في أهل الشام ، وسفيان الثوري فيمن وافق من أهل العراق ، وكذلك قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبي ثور ، وإسحاق ، وأبي عبيدة .

1647 - قال : وكان النعمان يكره سؤره ، وقال : إن توضأ به أجزأه ، وخالفه أصحابه ، وقالوا : لا بأس به .

1648 - قال أبو عمر : ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا ، وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده ، وأما محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والحسن بن زياد وغيرهم فإنهم يقولون بقول أبي حنيفة ، وأكثرهم يروون أنه لا يجزئ الوضوء بفضل الهر ، ويحتجون لذلك .

1649 - ويروى عن أبي هريرة ، وابن عمر أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر ، وهو قول ابن أبي ليلى .

1650 - وقد اختلف أيضا عن الثوري في سؤر الهر ، وذكر في " جامعه " أنه يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه . وهو ممن يكره أكل الهر .

1651 - وذكره المروزي قال : حدثنا عمرو بن زرارة ، قال حدثنا أبو النضر ، قال حدثني الأشجعي ، عن سفيان ، قال : لا بأس بفضل السنور .

1652 - ولا أعلم لمن كره سؤره حجة من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة ، أو لم يصح عنده ، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب ، فقاس الهر على الكلب .

[ ص: 120 ] 1653 - ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين " .

1654 - شك قرة .

1655 - وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة وحده ، وقرة ثقة ثبت إلا أنه خالفه فيه غيره ، فرووه عن ابن سيرين عن أبي هريرة قوله .

1656 - وفي هذا الحديث ما يدل أن أبا قتادة مذهبه أن الماء اليسير تفسده النجاسة وإن لم تظهر فيه ، لأنه احتج على المرأة التي تعجبت من [ ص: 121 ] إصغائه الإناء للهر بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها ليست بنجس " ، فلو كانت عنده تنجس ما أصغى لها الإناء ، لأنها كانت تفسده .

1657 - ومعلوم أن شرب الهر لا يظهر منه في الإناء ما يغيره .

1658 - وقد مضى القول في الماء وما في حكمه عند حلول النجاسة فيه كثيرا أو قليلا عند العلماء في الحديث قبل هذا ، والحمد لله .

1659 - ومعنى إصغاء أبي قتادة للهرة الإناء لتشرب منه : امتثال ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " في كل ذي كبد رطبة أجر " .

1660 - ولما كانت الهرة وهي سبع يفترس ويأكل الميتة - أنه ليس بنجس دل ذلك أن كل حي لا نجاسة فيه ما دام حيا حاشى الخنزير المحرم العين ، فإنه قد [ ص: 122 ] اختلف فيه : فقيل : إنه إذا ماس الماء أفسده وهو حي وقيل : إنه لا يفسده على حديث عمر في السباع .

1661 - وظاهر قوله - عليه السلام - : " الماء لا ينجسه شيء " يعني إلا ما غلب عليه وظهر فيه من النجاسة ، بدليل الإجماع على ذلك .

1662 - وإلى هذا يذهب أكثر أصحابنا وبه نقول .

1663 - وكذلك الطير كله : ما أكل منه الجيف ، وما لم يأكل ، لا بأس بسؤره إلا أن تكون في فمه نجاسة تغير الماء اعتبارا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهر .

1664 - وقد روي عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يغسل شيء من أثرها .

1665 - وهذا يدل على أنه ليس في حي نجاسة ، وإنما النجاسة في الميت ، وفيما ثبت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها : كالبول ، والغائط ، وسائر ما يخرج من المخرجين ، والخمر .

1666 - وقد يكون من الميتة ما ليس بنجس وهو كل شيء ليس له دم سائل مثل بنات وردان ، والزنبور ، والعقرب ، والجعلان ، والصرار ، والخنفساء ، ومن أشبه ذلك .

[ ص: 123 ] 1667 - والأصل فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه " ومنهم من يرويه فليمقله ، والمعنى سواء .

1668 - وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد .

1669 - ومعلوم أن الذباب مع ضعف خلقه إذا غمس في الماء والطعام مات فيه .

1670 - قال إبراهيم النخعي : ما ليس له نفس سائلة فليس بنجس ، يعني بالنفس الدم .

1671 - وقد رخص قوم في أكل دود التين ، وما في الطعام من السوس ، وفراخ النحل . واستجازوا ذلك لعدم النجاسة فيه .

[ ص: 124 ] 1672 - وكره أكل ذلك جماعة من أهل العلم ، وقالوا : لا يؤكل شيء من ذلك ؛ لأنه ليس له حلق ولا لبة فيذكى ، ولا من صيد الماء فيحل بغير التذكية .

1673 - واحتجوا بحديث النبي - عليه السلام - في حديث الذباب : " فليغمسه ثم ليطرحه " ، وقالوا : لو كان مباحا لم يأمر بطرحه .

1674 - وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون : لا يؤكل طعام ماتا فيه أو أحدهما ، لأنهما نجسان وهما من الحيوان الذي عيشه من دم الحيوان .

1675 - وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أصحاب سحنون يقول : إن ماتت القملة في الماء طرح ولم يشرب ، وإن وقعت في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز ، وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفأرة .

1676 - قال غيره من أصحابنا : أما البراغيث فهي كالذباب ، وكلاهما متناول للدم ويعيش منه .

1677 - وأما القملة فهي من الإنسان كدمه ، والدم ما لم يكن مسفوحا لا يقطع بتحريمه وإن كره .

[ ص: 125 ] 1678 - قال أبو عمر : الذي أقول إن ما لا دم له ولا دم فيه وإن كان يعيش من الدم فالأصل فيه حديث الذباب ، وأما ما ظهر فيه الدم فهو نجس يعتبر فيه ما أوضحنا من أصول العلماء في الماء ، وفي قليل الدم وكثيره .

1679 - وأما الماء فقليل النجاسة يفسده ، وليس كالماء الذي جعله الله طهورا مطهرا طاهرا ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية