الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : البكاء على الميت

فأما البكاء بلا ندب ولا نياحة فمباح ، لما فيه من تخفيف الحزن وتعجيل السلو ، وقد روى ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع إبراهيم عليه السلام في حجره وهو يجود بنفسه فقال : " لولا أنه موعد صادق ، ووعد جامع ، وأن الماضي فرط للباقي ، وأن الآخر لاحق بالأول ، لحزنا عليك يا إبراهيم " ثم دمعت عيناه ، فقال : " تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضاه الرب ، وإنا بك يا إبراهيم محزونون ، الحق بالسلف الصالح عثمان بن مظعون " .

وروى أبو أمامة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم عليه السلام ، وعيناه تدمعان ، فقال : يا نبي الله تبكي على هذا السخل ، والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولدا كلهم أشف منه ، كلهم أدفنهم في التراب أحياء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما ذنبي إن كانت الرحمة ذهبت منك " ، وروى ابن عباس قال : " لما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه عثمان بن مظعون بالحصبة " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون . قال : وبكى النساء " فجعل عمر بن الخطاب يضربهن بسوطه ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، وقال : " دعهن يا عمر ، قال : إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة ، ومهما يكن من اللسان واليد فمن الشيطان " قال : وبكت فاطمة رضي الله عنها على شفير القبر ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدموع عن عينها بطرف ثوبه، وقيل إنه صلى الله عليه وسلم زوج عثمان ابنته أم كلثوم على شفير قبر رقية .

[ ص: 69 ] فأما رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " فقد ذكر ذلك ابن عباس لعائشة رضي الله عنها بعد موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " حسبكم القرآن " ولا تزر وازرة وزر أخرى ، [ فاطر 18 ] ، وكلا الحديثين يفتقر إلى تأويل ، وليس يمكن حمل واحد منهما على ظاهره ، فلأصحابنا ثلاثة تأويلات :

أحدها : ما روته عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتاز على قبر يهودي ، وأهله يبكون عليه ، فقال : إنه ليبكى عليه ، وإنه ليعذب في قبره فقال ذلك إخبارا عن حاله .

والتأويل الثاني : أنه أراد بذلك ما يبكى به الجاهلي من حروبه وقتله وغاراته ، فيظنون أن ذكر ذلك رحمة له فيكون عذابا عليه .

والتأويل الثالث : ذكره المزني : أنه وارد فيمن وصى بالبكاء ، فقد كانوا يفعلون ذلك وقال شاعر منهم :

.

فإن مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد



فإذا عمل بذلك بعده كان زائدا في عذابه لقوله صلى الله عليه وسلم : " من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية