الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما القسم الذي لا يوجب الوضوء من أقسام النوم فهو النوم قاعدا لا يوجب الوضوء قليلا كان النوم أو كثيرا ، وقال المزني نوم القاعد يوجب الوضوء كنوم المضطجع قليلا كان أو كثيرا ، وقال مالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل إن كان نوم القاعد كثيرا أوجب الوضوء ، وإن كان قليلا لم يوجبه واستدل المزني بحديث صفوان بن عسال المرادي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم ، فكان النوم على عموم الأحوال موجبا للطهارة كما كان الغائط والبول موجبا على عموم الأحوال ، قال ولأن ما كان حدثا في غير حال القعود كان حدثا في حال القعود كسائر الأحداث ، وأما مالك ومن تابعه فإنهم استدلوا بأن قليل النوم في القعود لا يرخي المفاصل فكان السبيل محفوظا ، وإذا كثر وطال استرخت المفاصل فصار السبيل مستطلقا ، ودليلنا حديث حذيفة رضي الله عنه أنه نام قاعدا فلما أنبهه النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا رسول الله أمن هذا وضوء فقال : لا ، وروى معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم العينين وكاء السه في حفظ السبيل فكذلك الأرض تخلف العينين في حفظ السبيل .

ثم بين بالتعليل أن النوم ليس بحدث وإنما هو سبيل إلى الحدث فإذا وجد على صفة [ ص: 181 ] لا تكون سبيلا إليه انتفى الحكم عنه ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء " وروى قتادة عن أنس قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون . وهذا دليل على الإجماع منهم ، ثم من الدليل على مالك ومن تابعه أنه لما لم يكن قليله حدثا لم يكن كثيره حدثا كالكلام طردا والصوت والريح عكسا ، فأما الجواب عن استدلال المزني بحديث صفوان فهو أنه لما جمع في حديثه بين البول والنوم وكان البول ينقض الوضوء في حال دون حال وهي حال السلامة دون سلس البول لم يمنع أن يكون النوم ينقض الوضوء في حال دون حال ، وأما استدلاله بسائر الأحداث فالفرق بينهما أن النوم ليس بحدث في نفسه وإنما هو طريق إليه ، وما سوى النوم حدث في نفسه ولو كان حدثا لكان القياس يقتضي ما قاله المزني من تسوية النوم في الأحوال كسائر الأحداث وهو معنى قول الشافعي ( ولو صرنا إلى النظر لكان إذا غلب عليه النوم توضأ بأي حالاته كان ) يعني أن القياس كان يقتضي أن يكون حدثا لتعلق الوضوء به كسائر الأحداث .

ولكن انصرف تعليل النص عن أن يكون حدثا لتعلق الوضوء إليه فجاز أن يختص بالحال الذي يكون سبيلا إليه دون الحال الذي لا يكون سبيلا إليه .

قال المزني : وقد جعله الشافعي في النظر في معنى من أغمي عليه كيف كان يتوضأ فكذلك النائم على معناه كيف كان توضأ . الجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أنه ليس يمتنع أن يكون الإغماء حدثا بعينه فاستوى حكمه في الأحوال ، والنوم سبب إليه فاختلف حكمه لاختلاف الأحوال .

والثاني : أن النوم أخف حالا من الإغماء لأنه قد يتنبه بما ينتقل إليه من حال إلى حال فاختلف حكمه باختلاف الأحوال ، والإغماء أغلظ حالا لأنه لا ينتبه بما ينتقل إليه فاستوى حكمه في الأحوال .

التالي السابق


الخدمات العلمية