الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والأصل في وجوبها الكتاب ، والسنة ، وإجماع الصحابة .

فأما الكتاب فقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ، [ البينة : 5 ] ، وقال تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، [ النور : 56 ] ، واختلف أصحابنا في هذه الآية هل هي مجملة أم لا ؟ فقال أبو إسحاق : مجملة ؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في مال مخصوص إذا بلغ قدرا مخصوصا ، والآية لا تتضمن شيئا من هذا ، فعلم أنها مجملة ، وبيانها مأخوذ من جهة السنة ، إلا أنها تقتضي الوجوب ، وقال عدة من أصحابنا : ليست مجملة ، وذلك أن كل ما يتناوله اسم الزكاة فلأنه يقتضي وجوبه ، فإذا أخرج من المال ما يقع عليه اسم الزكاة فقد امتثل الأمر ، والزيادة عليه مأخوذة من السنة ، ويدل على وجوب الزكاة أيضا قوله تعالى : وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [ ص: 72 ] ، [ الذاريات : 19 ] ، وقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، [ التوبة : 103 ] ، فقوله تعالى ( خذ ) صريح في الأخذ ، وتنبيه على الوجوب ، وقوله تعالى : في أموالهم حق معلوم ، [ المعارج : 24 ] ، صريح في الوجوب ، وتنبيه على الأخذ ، وقال تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، [ التوبة : 34 ] ، والكنز من الأموال ما لم تؤد زكاته ، سواء كان مدفونا أو ظاهرا ، وما أدي زكاته فليس بكنز ، سواء كان مدفونا أو ظاهرا هكذا قال الشافعي ، وقد اعترض عليه في هذا التأويل ابن جرير الطبري ، وابن داود الأصبهاني ، فأما ابن داود فقال : الكنز في اللغة هو المال المدفون ، سواء أديت زكاته أم لا ، وهو المراد بالآية .

وأما ابن جرير فقال : الكنز المحرم بالآية ، هو ما لم ينفق منه في سبيل الله سبحانه ، في الغزو والجهاد ، وكلا التأويلين غلط ، وما ذكره الشافعي أصح ؛ لأن الكتاب يشهد له والسنة تدل عليه ، وقول الصحابة يعضده ، فأما ما يشهد من كتاب الله سبحانه ، فما ورد فيه من الوعيد بقوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم ، [ التوبة : 34 ] ، إلى قوله سبحانه : ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ، [ التوبة : 35 ] ، ولا يجوز أن يكون هذا الوعيد واردا في حرز الأموال ودفنها ، كما قال ابن داود لإباحته ذلك ، ولا في إنفاقها في الغزو والجهاد ، وكما قال ابن جرير ؛ لأن فرضه لم يتعين ، وليس في الأموال حق يجب أداؤه إلا الزكاة فعلم أنه المراد بالآية .

وأما ما يدل عليه من السنة ، فما روى عطاء عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله إن لي أوضاحا من ذهب أكنزها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " كل مال بلغ الزكاة فزكي فليس بكنز ، وما لم يزكه فهو كنز " .

وأما ما يعضده من قول الصحابة رضي الله عنهم ، فما روي عن ابن عمر أنه قال : كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز وإن لم يدفن ، وكل مال أدى زكاته فليس بكنز وإن دفن . وروي عن أبي هريرة قال : أيما رجل لا يؤدي زكاة ماله جاء يوم القيامة شجاع أقرع ، يطلب صاحبه ، فيقول : أنا كنزك ، أنا كنزك ، وليس لهما في الصحابة مخالف ، فهذا الذي ذكرنا من الكتاب دال على وجوب الزكاة ، وإن كان ما ورد به الكتاب أكثر مما ذكرنا .

وأما الدلالة على وجوبها من طريق السنة : فما روى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس ؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا " .

[ ص: 73 ] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وحجوا بيت ربكم تدخلوا الجنة " .

وروى أبو وائل عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله ، إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه وهو يفر منه ، حتى يطوقه في عنقه ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ، [ آل عمران : 180 ] ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم " .

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت بثلاث : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " .

وروي أن معاذ بن جبل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال : " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم " .

وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما صاحب إبل أو بقر وغنم لم يؤد زكاتها طرح يوم القيامة بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتكأه بأظلافها ، كلما بعدت أخراها عادت عليه أولاها " .

فهذا من طريق السنة .

فأما طريق وجوبها من إجماع الصحابة ، فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبر ، واستخلف أبو بكر رضي الله عنه كفر من العرب من كفر ، وامتنع من أداء الزكاة من امتنع ، فهم أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم ، واستشار الصحابة فيهم ، فقال له عمر رضي الله عنه : كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله سبحانه ، قال : فوكز أبو بكر في صدري وقال : وهل هذا إلا حق حقها ، والله لا فرقت بين الصلاة والزكاة وقد جمع الله عز وجل بينهما في كتابه ، ثم قال والله لو منعوني عقالا أو عناقا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ، قال عمر : وشرح الله تعالى صدري للذي شرح له صدر أبي بكر ، فأجمعت الصحابة معه على وجوبها بعد مخالفتهم له ، وأطاعوه على قتال مانعيها بعد إنكارهم عليه ، فثبت وجوبها بالكتاب والسنة والإجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية