الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وملامسة الرجل المرأة ، والملامسة أن يفضي بشيء منه إلى جسدها ، أو تفضي إليه لا حائل بينهما أو يقبلها " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، والملامسة هي القسم الرابع من أقسام ما يوجب الوضوء فإذا لمس الرجل بدن المرأة أو المرأة بدن الرجل ، فالوضوء على اللامس منهما واجب سواء لمس بشهوة أو غيرها ، هذا مذهب الشافعي وبه قال من الصحابة عمر ، وابن مسعود ، وابن عمر ، ومن التابعين مكحول ، والشعبي ، والزهري ، ومن الفقهاء النخعي ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .

وقال مالك ، والثوري : إن قبلها بشهوة انتقض وضوءه ، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : وإن انتشر ذكره بالملامسة انتقض وضوءه ، وإن لم ينتشر لم ينتقض وقال عطاء : إن مس من تحرم عليه انتقض وضوءه ، وإن مس من تحل له لم ينتقض ، وقال ابن عباس والحسن البصري ، ومحمد بن الحسن : لا وضوء في الملامسة بحال واستدلوا جميعا على سقوط الوضوء منها على اختلافهم فيها برواية إبراهيم التيمي [ ص: 184 ] عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها ولم يتوضأ " .

وبرواية الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، فقال عروة : فقلت لها : من هي إلا أنت فضحكت ، وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت ألتمسه بيدي فوقعت يدي على أخمص قدميه وسمعته يقول : " اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك " فلو كان وضوءه انتقض لم يمض في سجوده قال : ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته فدل على أن لمس الإناث لا ينقض الوضوء قال : ولأنها ملامسة من جسمين فوجب ألا ينتقض بها الوضوء كما لو كان ذلك بين رجلين أو امرأتين ، ولأنه لمس بين ذكر وأنثى فوجب ألا ينتقض الوضوء قياسا على لمس ذوات المحرم ولأنه لمس جزء من امرأته فوجب ألا ينتقض الوضوء كلمس الشعر .

ودليلنا : قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله : أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا .

فكان الدليل في الآية من وجهين :

أحدهما : أن حقيقة الملامسة اسم لالتقاء البشرتين لغة وشرعا .

أما اللغة قول الأعمش :


ولا تلمس الأفعى يدك تضرها ودعها إذا ما عينتها سبابها

[ ص: 185 ] وأنشد الشافعي :


فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى أفدت     وأغناني فضيعت ما عندي
وألمست كفي كفه طلب الغنى     ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

وأما الشرع فقوله تعالى : فلمسوه بأيديهم [ الأنعام : 7 ] وقوله : وأنا لمسنا السماء [ الجن : 8 ] ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة .

والثاني : أن اسم الملامسة اسم له حقيقة ومجاز ، وقد يستعمل في الجماع والمسيس فلم يجز أن يكون حقيقة فيهما ، ولا أن يكون حقيقة في الجماع لأنه بالمسيس أخص وأشهر فصار مجازا في الجماع حقيقة في المسيس ، والحكم المعلق بالاسم يجب أن يكون إطلاقه محمولا على حقيقته دون مجازه . فإن قيل : بل هي حقيقة في الجماع لأمرين .

أحدهما : أن عليا وابن عباس حملاه على الجماع وهو بالمراد به أعرف .

والثاني : أنها مفاعلة لا تكون إلا من فاعلين وذلك هو الجماع دون المسيس ، قيل أما تأويلا علي ، وابن عباس فقد خالفهما ابن مسعود ، وابن عمر ، وكذلك عمر وعمار ، وأما المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين فكذلك صورة المسيس باليد على أن حمزة والكسائي قد قرآ : أو لمستم وذلك لا يتناول إلا المسيس باليد فإن حملت قراءة من قرأ أو لامستم على الجماع كانت قراءة من قرأ أو لمستم محمولة على المسيس باليد ، فيكون اختلاف القراءتين محمولا على اختلاف حكمين على أن زيد بن أسلم وهو من أهل العلم بتفسير القرآن قال : إن في الآية تقديما وتأخيرا ورتب الآية ترتيبا حسنا يسقط معه هذا التأويل فقال : ظاهر قوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء [ النساء : 43 ] . فيقتضي أن يكون السفر والمرض حدثا وبالإجماع ليسا بحدث فدل على أن في الآية تقديما وتأخيرا ، وأن ترتيب الكلام : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من نوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين إن وجدتم الماء ، وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر وجاءكم ما تقدم من الحدث أو الجنابة فتيمموا صعيدا طيبا ، وهذا تفسير يقتضيه ظاهر الآية ويسقط معه هذا التأويل ، وليس يمتنع في الكتاب واللغة التقديم والتأخير ، قال الله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ الكهف : 1 ] . تقديره " الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا " ، وقال : فضحكت فبشرناها بإسحاق [ هود : 71 ] أي بشرناها بإسحاق فضحكت ، وقال الشاعر :


لقد كان في حول ثواء ثويته     تقضي لبانات ويسأم سائم

يعني لقد كان في ثواء حول ثويته ، ثم من الدليل على ما ذكرنا من طريق السنة ما [ ص: 186 ] روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل فسأله عن رجل يصيب من امرأته ما يحل له ما يصبه من امرأته إلا الجماع .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يتوضأ وضوءا حسنا "
وهذا أمر لسائل مسترشد يقتضي وجوب ما تضمنه ، ثم الدليل من طريق القياس أنها مماسة توجب الفدية على المحرم فوجب أن تنقض الوضوء كالجماع ، ولأنه معنى من جنسه لم يوجب الطهارة الكبرى ، فوجب أن يكون من نوعه ، لم يوجب الطهارة الصغرى كالمني والمذي ، ولأن كل ملامسة لو قارنها انتشار وجب فيها الطهارة فإذا خلت عن الانتشار وجبت فيها تلك الطهارة كالتقاء الختانين ، ولأنها طهارة حكمية فجاز أن ينقسم موجبها إلى خارج وملاقاة كالغسل ، لأنه معنى يقضي إلى نقض الطهر في الغالب فجاز أن يتعلق نقض الطهر بعينه كالنوم .

فأما الجواب عن خبري عائشة فمن ثلاثة أوجه .

أحدها : ضعفهما وطعن أصحاب الحديث فيهما ، قال أبو داود في سننه : أما حديث إبراهيم عن عائشة فمرسل لأن إبراهيم لم يسمع من عائشة . وأما حديث حبيب بن عروة فقال الأعمش : هو عروة المزني وليس بعروة بن الزبير .

وحكي عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال لرجل احك عني أن هذين الحديثين شبه لا شيء .

والجواب الثاني : ما قاله أحمد بن حنبل وأبو بكر النيسابوري أن حبيب بن أبي ثابت غلط فيه من الصيام إلى الوضوء .

والجواب الثالث : أنه إذا صح الحديث فحمله على القبلة من وراء ثوب وبها يبطل قول من ذهب إلى وجوب الوضوء باللمس من وراء ثوب ، ولا يمتنع أن ينطلق اسم القبلة على ذلك ، قال الشاعر :

وكم من دمعة في الخد تجري     وكم من قبلة فوق النقاب

فأما الجواب عن حديث عائشة أن يدها وقعت على أخمص قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ثلاثة أوجه : [ ص: 187 ] أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملموسا ولا وضوء عليه في أحد القولين .

والثاني : أنه كان داعيا في غير الصلاة ، وذلك يجوز للمحدث وليس من شرط الدعاء ألا يكون إلا في الصلاة .

والثالث : أنه يجوز أن يكون من وراء حائل ، وأما الجواب عن حمله أمامة بنت أبي العاص فمن وجهين :

أحدهما : أن حملها لا يتقضى مباشرة بدنها .

والثاني : أنها من ذوات المحارم لأنها بنت بنته زينب ، ولا وضوء في لمس المحارم عندنا في أحد القولين وإن كانت صغيرة فلا يبطل وضوءه على أحد القولين ، وأما الجواب عن قياسهم على لمس ذوات المحارم فهو أن لنا فيها قولين فلا نسلم على أحد القولين .

والقول الثاني : أنه لا يوجب ، والفرق بين الأجانب وبينهن أنهن جنس لا يستباح الاستمتاع بهن كالذكور بخلاف الأجانب ، وأما الجواب عن قياسهم على لمس الشعر فقد كان بعض أصحابنا يوجب الوضوء من لمسه فعلى هذا لا نسلم ، وظاهر المذهب أنه لا وضوء من لمسه ، والمعنى فيه أنه لمس لا يقصد به اللذة في الغالب وكذا الظفر والسن وليس كذلك لمس الجسم لأنه مقصود للذة في الغالب .

التالي السابق


الخدمات العلمية