الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " أو ماء بل فيه خبز أو غير ذلك مما لا يقع عليه اسم الماء المطلق حتى يضاف إلى ما خالطه أو خرج منه فلا يجوز التطهر به " .

قال الماوردي : قد مضى الكلام في شرح المياه إلا أنا نختصره بقسم جامع نمهد به أصوله وتبتنى عليه فروعه ، فنقول : الماء ضربان مطلق ، ومضاف ، فالمطلق على حكم أصله في جواز استعماله في الحدث والنجس ، والمضاف على ضربين : إضافة تمنع من جواز استعماله ، وإضافة لا تمنع منه ، فأما التي لا تمنع من الاستعمال فإضافتان : إضافة قرار كماء البحر والزهر ، وإضافة صفة كماء عذب أو أجاج ، فأما المانعة من جواز الاستعمال فيتقسم إلى ثلاثة أقسام : إضافة حكم وإضافة جنس وإضافة غلبة .

فأما القسم الأول وهو إضافة الحكم فضربان :

أحدهما : ما سلب الماء حكم التطهير دون الطهارة كالماء المستعمل فلا يجوز استعماله في حدث ولا نجس لما سنذكره من بعد .

والثاني : ما سلبه حكم التطهير والطهارة كالماء النجس .

وأما القسم الثاني وهو إضافة الجنس كماء الورد والفواكه والبقول وكل معتصر من نبات فلا يجوز استعماله في حدث ، ولا نجس ، وخالفنا أبو حنيفة فيه فيجوز إزالة النجاسة به وقد مضى الكلام فيه معه .

وأما القسم الثالث : وهو إضافة الغلبة فهو على ضربين :

أحدهما : غلبة مخالطة .

والثاني : غلبة مجاورة .

فأما غلبة المخالطة فهو أن يتغير الماء بمائع كالعسل أو مذرور كالزعفران ، وذلك مانع من جواز الاستعمال ، وأما غلبة المجاورة فهو أن يتغير الماء بجامد كالخشب أو متميز كالدهن ، وذلك غير مانع من جواز استعماله .

[ ص: 53 ] فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا من تقسيم المياه فجميع الفروع مرتب عليها ومستفاد منها فمن فروع هذا الفصل أن التمر والزبيب والبر والشعير إذا وقع في الماء فغيره ، فإن كان بحاله صحيحا لم ينحل في الماء فاستعماله جائز ، لأنه تغيير مجاورة كما لو تغير بالخشب وإن ذاب في الماء وانحل فاستعماله غير جائز ، لأنه تغيير مخالطة كما لو تغير بمذرور الزعفران والعصفر ، وهكذا حكم سائر الحبوب من الأرز والحمص والعدس وإن طبخ بالنار فإن انحلت في الماء فاستعماله غير جائز ، وإن لم ينحل ولا تغير بها الماء فاستعماله جائز ، وإن تغير بها الماء من غير انحلال أجزائها ففي جواز استعماله وجهان :

أحدهما : يجوز كما لو يتغير بلا انحلال من غير طبخ .

والثاني : لا يجوز استعماله ، لأنه بالطبخ صار مرقا .

ومن فروع هذا الفصل أن القطران إذا وقع في الماء فغيره فقد قال الشافعي في كتاب الأم : لا يجوز استعماله ، وقال في موضع آخر : يجوز استعماله ، وليس ذلك على قولين كما وهم فيه بعض أصحابنا ، ولكن القطران على ضربين :

الأول : ضرب فيه دهنية فتغير الماء به لا يمنع من جواز استعماله ، كما لو تغير بدهن .

والثاني : ضرب لا دهنية فيه فتغير الماء فيه مانع من جواز استعماله كما لو يتغير بمائع .

ومن فروع هذا الفصل : أن الماء إذا تغير بالشمع جاز استعماله ، كما لو تغير بدهن ، ولو تغير شحم أذيب فيه بالنار كان في جواز استعماله وجهان :

أحدهما : يجوز لأن الشحم دهن .

والثاني : لا يجوز استعماله لأن مخالطة الشحم للماء تجعله مرقا .

ومن فروع هذا الفصل : أن الماء إذا تغير بالكافور فله ثلاثة أحوال :

حال يعلم انحلال الكافور فيه فاستعماله غير جائز ، لأنه تغير مخالطة .

وحال يعلم أنه لم ينحل فيه فاستعماله جائز ، لأنه تغير مجاورة .

وحالة شك فيه ، فينظر في صفاء التغير ، فإن تغير الطعم دون الرائحة فهو دال على تغير المخالطة ويجوز استعماله ، وإن كان تغير الريح ففيه لأصحابنا وجهان :

أحدهما : أن يغلب فيه تغير المخالطة فعلى هذا لا يجوز استعماله .

والثاني : أنه يغلب تغير المجاورة فيجوز استعماله .

[ ص: 54 ] ومن فروع هذا الفصل أن المني إذا وقع في الماء كان طاهرا لطهارة المني ، فإن لم يغير الماء جاز استعماله وإن تغير ففيه وجهان :

أحدهما : أن استعماله غير جائز كما لو تغير بمائع غير المني .

والثاني : أن استعماله جائز لأنه لا يكاد يماع في الماء كالدهن ، فلم يمنع من استعماله ، لأن تغيره تغير مجاورة .

قال أبو العباس بن العاص : إن الورق في الماء بعد أن ربا فاستعماله غير جائز ، وإن لم يعصر فيه جاز استعماله ، فأما إذا كان ورق الشجر مدقوقا ناعما فغير الماء لم يجز استعماله ، لأنه تغير مخالطة كالزعفران ، وقال أبو حامد الإسفراييني : يجوز استعماله كما لو كان صحيحا ، وهذا غير صحيح ، لأن تغير الماء بالورق المدقوق تغير مخالطة ، وتغيره بالورق الصحيح تغير مجاورة .

ومن فروع هذا الفصل أن الماء إذا تغير بالملح لم ينحل أن يكون ملح حجر أو ملح جمد فإن كان ملح حجر فاستعمال ما تغير به من الماء غير جائز ، كما لو تغير الماء بما ينحل فيه من جواهر الأرض كالكحل وغيره ، وإن كان ملح جمد ففي جواز استعماله وجهان :

أحدهما : يجوز لأن أصله ما قد جمد ، فإذا ذاب لم يمنع من جواز الاستعمال كالثلج إذا ذاب .

والوجه الثاني : لا يجوز استعماله لأنه قد استحال عن الماء فصار جوهرا كغيره . ومن فروع هذا الفصل أن الماء إذا تغير بالجماد أو بطول المكث كان استعماله جائزا لأنه تغير مجاورة ، فأما إذا تغير بالتراب فإن صار بحيث لا يجزئ بطبعه لم يجز استعماله ، لأنه صار علينا ، وإن كان جاريا بطبعه لكن تكدر لونه وتغير طبعه ففي جواز استعماله قولان :

أحدهما : لا يجوز لأنه مذرور .

والقول الثاني : وهو الأصح يجوز قرار للماء لا ينفك غالبا عنه كالطين .

[ ص: 55 ] ومن الفروع المضاهية لهذا الفصل تكميل ماء الطهارة بمائع طاهر ، وهو أن يكون الرجل يكتفي في غسله بعشرة أرطال من ماء فيجد ثمانية أرطال قيمتها برطلين من لبن أو مائع غيره ، ولا تغير شيئا من أوصافه فقد اختلف أصحابنا في جواز استعمال جميعه على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي علي الطبري وطائفة أن استعمال جميعه غير جائز للإحاطة باستعمال المائع في طهارته .

والوجه الثاني : وهو قول الجمهور أن استعماله جائز لأنه لا حكم لما صار مستهلكا فيه من المائع ، ألا ترى أنه لو استعمل ثمانية أرطال هي مقدار الماء وبقي منه رطلان هي مقدار المائع جاز ، وإن أحطنا علما بأن الثاني ليس بمائع فرد ، وأن الذي استعمله ليس بماء فرد ، فكذا إذا استعمل الكل لكون المائع مستهلكا فيه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية