الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو شهد الشاهدان أن له هذه المائة بعينها من رأس الحول فقال : قد ثم بعتها اشتريتها صدق " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل معه أربعون من الغنم طالبه الساعي بزكاتها ، فذكر أن حولها لم يحل فقبل الساعي قوله ، ثم إن شاهدين شهدا عليه أنها كانت معه من أول الحول إلى آخره .

قال الشافعي : لا أقبل شهادتهما حتى يقطعا الشهادة عليها بأعيانها بأن يقولا : كانت هذه الغنم ويشيرا إليها لهذا الرجل ويشيرا إليه من أول الحول إلى آخره ، فإن زادا أو تمما الشهادة لو قالا لا نعلم أنها خرجت عن ملكه كان أحوط ، فإن صحت شهادتهما فعلى الساعي أن يرجع [ ص: 127 ] إلى ربها فيطالبه بزكاتها ؛ لأن البينة العادلة خير من الدعوى الكاذبة واليمين الفاجرة ، فإن قيل : ولم أجزتم شهادتهما وقد شهدا من غير أن يستشهدا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خير هذه الأمة قرني الذي أنا فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ثم ، الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب في الناس حتى يشهد الشهود من قبل أن يستشهدوا " .

قيل : إنما اجتزينا بهذه الشهادة ؛ لأنها تتعلق بحق الله تعالى يستوي فيه الشاهد والمطالب فحسن أن يشهد فيه قبل أن يستشهد ، وكذلك حقوق الأيتام والضعفاء ومن لا ناصر له ولا معاضد ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير الشهادة ما شهد به الشهود قبل أن يستشهدوا فيها " ، فكان هذا الحديث موافقا لمعنى ما ذكرنا ، ويحمل ذلك الحديث على دعاوى الخصوم في حقوق الآدميين ، فيكون الحديثان معا مستعملين ، فإن قيل : فما تقولون في الشاهدين إن كانا فقيرين من أهل الصدقة تقبل شهادتهما أم لا ؟ قيل : إن كانا من جيران المالك وأهله لم تقبل شهادتهما لأنهما قد يتهمان أن يجرا بالشهادة نفعا إلى أنفسهما ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تجوز شهادة الخائن ولا ذي غمر ، ولا شهادة القانع لأهل البيت " يعني بذي الغمر العدو ، والقانع : السائل لأهل البيت الذين كانوا يتعاهدونه بالبر والصدقة ، وإن كان من غير جيران المالك ، وممن لا تفرق بينهما تلك الزكاة لبعدهما ، ففي قبول شهادتهما وجهان :

أحدهما : تقبل لانتفاء الريبة عنهما .

والثاني : لا تقبل خوفا من التهمة بأن تئول الصدقة إليهما ، فإذا قامت عليه البينة العادلة بأنها في يده من أول الحول إلى آخره ، طولب بأداء الزكاة ، فإن أكذب البينة لم يلتفت إلى إكذابه ، وأخذت منه الزكاة جبرا ، وإن أصدق البينة وادعى أنه قد كان باعها في تضاعيف الحول شراء ثم ابتاعها فالقول قوله مع يمينه ، لأنه أمين وما قاله محتمل . لكن اختلف أصحابنا هل هذه الدعوى توافق الظاهر أو تخالفه ؟ على وجهين :

أحدهما : أنها موافقة للظاهر ، فعلى هذا تكون اليمين استظهارا ، فإن نكل عنها لم تؤخذ منه الزكاة .

والثاني : واجبة فإن نكل عنها أخذت منه الزكاة

[ ص: 128 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية