الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : واستدل من نصر قول أبي حنيفة برواية أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما ولاه البحرين كتب له كتاب الصدقات ، وقال فيه : " إذا لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فلا شيء فيها إلا أن يشاء ربها " فدل على أن الخلطة لا تأثير لها ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا خلاط ولا وراط " يريد أن الخلطة في المواشي لا تأثير لها في الزكوات ، ولأن ملك [ ص: 137 ] كل واحد منهما ناقص عن النصاب فوجب أن لا تلزمه زكاة كالمنفرد ، ولأن الزكاة تجب بالحول والنصاب ، فلما لم يكن للخلطة تأثير في الحول ووجب اعتبار حول كل واحد منهما على انفراده ، وجب أن لا يكون لها تأثير في النصاب ، ويعتبر نصاب كل واحد منهما على انفراد ، وتحرير ذلك قياسا أنه أحد شرطي الزكاة ، فوجب أن لا يتغير بالخلطة كالحول ، ولأن النصاب الذي يقطع فيه السارق مقدر كما أن النصاب الذي تجب فيه الزكاة مقدر ، فلما كان الشركاء في سرقة نصاب لا قطع عليهم حتى تبلغ سرقة كل واحد منهم نصابا ، وجب أن يكون الخلطاء في المال لا زكاة عليهم حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا ، وتحرير ذلك قياسا أنه حق تعلق بقدر من المال فوجب أن يستوي فيه حكم الاشتراك والانفراد كالقطع في السرقة .

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم : " في أربعين شاة شاة ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي ثلاثين بقرة تبيع " ولم يفرق بين أن يكون ذلك لمالك أو ملاك . وروى الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية "

وفيه تأويلان :

أحدهما : قوله " لا يجمع بين مفترق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة " أي : لا يجمع بين الأملاك المتفرقة ، وهو أن يكونوا ثلاثة لكل واحد منهم أربعون مفردة ، فلا تجمع ليؤخذ منها شاة ، وتكون على تفريقها ليؤخذ منها ثلاث شياه ، ولا يفرق بين الأملاك المجتمعة ، وهو أن يكونوا ثلاثة بينهم مائة وعشرون مجتمعة ، فلا تفرق ليؤخذ منها ثلاث شياه وتكون على اجتماعها ليؤخذ منها شاة ، فيحمل قوله " لا يجمع بين متفرق " على الأملاك ، " ولا يفرق بين مجتمع " على الأملاك . وقال أبو حنيفة : أحمل قوله " لا يجمع بين متفرق " على الأملاك كقول الشافعي ، " ولا يفرق بين مجتمع " على الملك الواحد لا على الأملاك ، وهو أن يكون لرجل مائة وعشرون شاة ، فلا تفرق ليؤخذ منها ثلاث شياه ، وتكون على اجتماعها في المال ليؤخذ منها شاة ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن هذا معلوم بقوله " في أربعين شاة شاة إلى مائة وعشرين " فكان حمل الحديث على استفادة حكم آخر أولى .

والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تفريق ، ما نهى عن جمعه ، فلما كان نهي الجمع في الأملاك لا في الملك ، وجب أن يكون نهي التفريق في الأملاك لا في الملك ، فصحت هذه الدلالة من الخبر .

[ ص: 138 ] والدلالة الثانية : قوله : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية والتراجع يكون في خلطة الأوصاف دون الأعيان ، يؤيد ذلك ويؤكده ، رواية سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والخليطان ما اجتمعا في الحوض والسقي والرعي " وروي : " والفحول " ولأنه ملك لو انفرد به أحدهما وجبت زكاته ، فجاز إذا اشتركا فيه أن تجب زكاته لوجود النصاب كما أن كل مال سقطت عنه الزكاة لا لنقصان النصاب لم تجب فيه الزكاة بوجود النصاب ، كمال الذمي والمكاتب ، ولأن إيجاب الزكاة يفتقر إلى مالك ومملوك ، فلما وجبت الزكاة وإن افترق الملك اقتضى أن تجب الزكاة وإن افترق الملاك . وأما الجواب عن قوله : " وإذا لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فلا شيء فيها " فهو دليلنا ؛ لأنه قال : " الرجل " فأدخل الألف واللام الداخلة للجنس أو للمعهود ، فلم يصح حملها على المعهود لفقده ، فكانت محمولة على الجنس ، كأنه قال : وإذا لم تبلغ سائمة الرجال أربعين فلا شيء فيها ، وأما قوله : " لا خلاط ولا وراط " فهذا حديث ذكره أبو عبيد في " غريب الحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لوائل بن حجر الحضرمي ، ولقومه : " من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، على البيعة شاة واليتيمة لصاحبها ، وفي السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط ولا شناق ، ولا شغار في الإسلام " . قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث : أن الأقيال : ملوك باليمن دون الملك الأعظم ، والعباهلة : الذين قد أقروا على ملكهم لا يزالون عنه ، والبيعة : أربعون من الغنم ، واليتيمة : الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى ، والسيوب : الركاز ، قال أبو عبيد : ولا أراه أخذ إلا من السيب وهو العطية ، والخلاط : الشركة في المواشي ، والوراط : الخديعة والغش ، والشنق : ما بين الفريضتين ، والشغار : عقد النكاح الخالي من الصداق ، فهذا تفسير أبي عبيد ، وليس في قوله " لا خلاط " دلالة على ما ذكروا ، لأنه يقتضي النهي عن نفس الخلطة ، وليس للزكاة ذكر ، والخلطة جائزة باتفاق ، وإنما أريد بها خلطة الجاهلية الواقعة على صفات حظرها الشرع ، وأما قياسهم على المنفرد فالمعنى فيه عدم النصاب ، وأما جمعهم بين الحول والنصاب ، فالمعنى فيه سواء ؛ لأننا نعتبر النصاب من حين الخلطة لا فيما قبل ، وأما قياسهم على السرقة فالمعنى فيه أنه لما لم تضم بعض سرقاته إلى بعض لم تضم سرقة غيره إلى سرقته ، ولما ضم بعض ماله إلى بعض ضم مال غيره إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية