الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 152 ] باب من تجب عليه الصدقة

قال الشافعي رضي الله عنه : " وتجب الصدقة على كل مالك تام الملك من الأحرار ، وإن كان صغيرا أو معتوها أو امرأة لا فرق بينهم في ذلك ، كما تجب في مال كل واحد منهم ما لزم ماله بوجه من الوجوه جناية أو ميراث أو نفقة على والد أو ولد زمن محتاج ، وسواء ذلك في الماشية والزرع وزكاة الفطرة ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ابتغوا في أموال اليتيم - أو قال في أموال اليتامى - لا تأكلها الزكاة " ، وعن عمر بن الخطاب وابن عمر وعائشة أن الزكاة في أموال اليتامى " .

قال الماوردي : وهذا كما قال : كل حر مسلم فالزكاة في ماله واجبة ، مكلفا كان أو غير مكلف ، وقال أبو حنيفة : التكليف من شرط وجوب الزكاة ، فإن كان صغيرا أو مجنونا فلا زكاة عليه ، إلا زكاة الفطر والأعشار استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاث عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى ينتبه " . ولأنها عبادة محضة لا تلزم الغير على الغير ، فوجب أن لا تلزم غير مكلف كالصلاة والصيام ، ولأن زكاة المسلم تقابل جزية الذمي لاعتبار الحول فيها ، غير أن الله تعالى جعل الزكاة تطهيرا ونعمة والجزية صغارا ونقمة ، فلما لم تجب الجزية على غير المكلف ، اقتضى أن لا تجب الزكاة على غير المكلف .

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، [ التوبة : 103 ] ، والهاء والميم في أموالهم كناية ترجع إلى مذكور تقدم وهو قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، [ التوبة : 100 ] ، قيل : اتبعوهم في الإسلام من الذراري والأطفال .

[ ص: 153 ] وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ابتغوا في أموال اليتامى كيلا تأكلها الزكاة " .

وروى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ولي يتيما فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " .

روى محمد بن عبيد الله ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" في مال اليتيم زكاة " فإن قيل : هذا خطاب ، والخطاب تكليف ، ولا يتوجه إلى غير مكلف ، قيل الخطاب ضربان :

أحدهما : خطاب مواجهة ، وذلك لا يتوجه إلى غير ما كلف ، وخطاب إلزام كمسألتنا وذلك يتوجه إلى غير المكلف كتوجهه إلى المكلف ، ولأن ذلك مذهب عمر وابن عمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم ، وليس يعرف لهم في الصحابة مخالف ، ولأنه من أصل الفطرة فجاز أن تجب الزكاة في ماله كالبالغ ، ولا يدخل عليه العبد ، لأنه لا مال له ، ولأن كل زكاة تجب على المكلف جاز أن تجب في مال غير المكلف كزكاة الفطر ، ولأن الحقوق ضربان : حق لله تعالى وحق للآدمي ، وحق الآدمي ضربان : أفعال أبدان كالقصاص وحد القذف ، وحقوق أموال كالمهر والنفقات وأروش الجنايات ، فما كان من أفعال الأبدان يختص به المكلف من غيره ، وما كان من حقوق الأموال يستوي فيه المكلف وغيره ، كذلك حقوق الله تعالى ضربان : أفعال أبدان كالصلاة والصيام ، وذلك يختص به المكلف دون غيره ، وحقوق أموال كالزكوات يجب أن يستوي فيها المكلف وغيره ، فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم " فمعنى رفع القلم عن نفسه ، لا عن ماله .

وأما قياسهم على الصلاة والصيام فلا يصح ، لأنهم إن قالوا : فوجب أن لا يجب على الصبي ، قلنا : ليست واجبة عليه وإنما هي واجبة في ماله ، وإن قالوا : فوجب أن لا تجب في ماله ، لم يوجد هذا الوصف في الأصل المردود إليه من الصلاة والصيام ، على أن المعنى في الصلاة والصيام أنهما من أفعال الأبدان والزكوات من حقوق الأموال ، وحكمهما مفترق بالاستدلال المتقدم ، فلم يصح الجمع بينهما ، ألا ترى أنهم فرقوا بين زكاة الفطر وبين [ ص: 154 ] الصلاة ، وبمثله يفرق بين زكوات الأموال وبين الصلاة ، وأما ما ذكروه من الجزية فلا يصح الجمع بينهما ؛ لأن وجوب الجزية أضيق ، ووجوب الزكاة أوسع ، ألا ترى أن الجزية تجب على الرجال دون النساء ، والزكاة تجب على الرجال والنساء ، فلم يصح الجمع بينهما والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية