الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا يجزئه ذهب عن ورق ، ولا ورق عن ذهب ؛ لأنه غير ما وجب عليه " .

قال الماوردي : وهذا كما قال :

إخراج القيم في الزكوات لا يجوز ، وكذا في الكفارات حتى يخرج المنصوص عليه بدلا أو مبدلا .

وقال أبو حنيفة : يجوز إخراج القيم في الزكوات والكفارات ، إلا أن يكون عتقا ، فكل مال جاز أن يكون متمولا ، إلا أن يكون سكنى دار ، أو من جنس منصوص عليه ، كإخراج نصف صاع تمر بدلا عن صاع من زبيب ، واختلف أصحابه في إخراج القيمة ، هل هي الواجب أو بدل عن الواجب ؛ على مذهبين .

وقال مالك : يجوز إخراج الورق عن الذهب ، والذهب عن الورق لا غير ، واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صدقة الفطر : " أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم " . والإغناء قد يكون بدفع القيمة ، كما يكون بدفع الأصل ، وبما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في خمس وعشرين بنت مخاض ، فإن لم يكن فابن لبون ذكر " فنص على دفع القيمة .

وبما روي عن معاذ أنه قال لأهل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم واليا عليهم : " ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم ، وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة " فأمرهم بدفع الثياب بدلا عن الذرة والشعير ، وهو لا يقول ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا توقيفا ، قالوا : ولأنه مال مزكى فجاز إخراج قيمته كمال التجارة .

قالوا : ولأن القيمة مال فجاز إخراجها في الزكاة كالمنصوص عليه ، قالوا : ولأنه لما جاز في الزكاة العدول عن العين إلى الجنس ، وهو أن يخرج زكاة غنمه من غيرها جاز [ ص: 180 ] العدول من جنس إلى جنس ، ألا ترى أن في حقوق الآدميين لما لم يجز العدول من العين إلى الجنس لم يجز العدول من جنس إلى جنس .

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : رواية عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمره أن يأخذ من الحب حبا ، ومن الغنم غنما ، ومن الإبل إبلا ، ومن البقر بقرا فاقتضى ظاهر أمره أن لا يجوز الأخذ من غيره . وروى عبد الله بن عمر قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير ، على كل حر وعبد ذكر أو أنثى من المسلمين فخيره بين التمر والشعير دون غيرهما ، والمخالف فخيره بينهما أو بين قيمة أحدهما ، وظاهر الخبر يمنع منهما .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض ، فإن لم تكن فابن لبون ذكر " وفيه دليلان :

أحدهما : أنه أمر أن يأخذ ابن لبون على وجه البدل عند عدم بنت مخاض ، وأبو حنيفة يجيز أخذه على وجه القيمة مع وجود بنت مخاض .

والثاني : أنه نص على شيئين على الترتيب وأبو حنيفة يجيز ثالثا وهو القيمة ، ويسقط الترتيب ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ومن بلغت صدقته جذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تؤخذ منه ، ويجعل معها شاتين إن استيسر أو عشرين درهما " وفيه دليلان كالذي قبله ، ثم قدر البدل من الدراهم بعشرين درهما ، والقيمة غير مقدرة بالشرع كقيم المتلفات ، وإنما البدل مقدر بالشرع كالديات ، وهذا دليل ثالث من الخبر ، وهو أقواها ، ولأنه عدل عن المنصوص عليه إلى غيره فلم يجزه كسكنى داره ، وهو أن يسكنها الفقراء مدة تكون أجرتها قدر زكاته ، ولأنه إخراج قيمة في الزكاة فوجب أن لا يجزئه ، كما لو أخرج نصف صاع تمرا وسطا عن صاع تمر رديء ، أو أخرج شاة سمينة عن شاتين مهزولتين ، ولأنه حق في مال يخرج على وجه الطهرة فلم يجز إخراج قيمته كالعتق في الكفارة ، فإن قيل : هو باطل بجزاء الصيد يجوز عندكم إخراج قيمته ، قيل : غلط ؛ لأن القيمة ليست مخرجة ، وإنما يتعذر بها البدل المخرج ، ألا تراه يقوم الجزاء دراهم ثم تصرف الدراهم في طعام ولا تخرج الدراهم ، ولأن الزكاة تشتمل على مقدر مأخوذ وهو الزكاة ، ومقدر متروك وهو النصاب ، فلما ثبت أن القدر المتروك لا يقوم مقامه ما كان في معناه ، وهو أن يكون معه أربعة من الإبل ثنايا تساوي خمسا من الإبل دون الثنايا وجب أن يكون المقدار المأخوذ لا يقوم مقامه ما كان في معناه .

[ ص: 181 ] وتحرير ذلك قياسا أنه أحد مقدري الزكاة فوجب أن لا يقيم غيره مقامه ، وإن كان في معناه كالنصاب ، ولأن الزكاة تشتمل على مال مزكى وقدر مؤدى ، فلما كان المال المزكى مخصوصا في بعض الأموال دون بعض وجب أن يكون القدر المؤدى مخصوصا في بعض الأموال دون بعض .

وتحرير ذلك قياسا : أنه أحد نوعي الزكاة فوجب أن يكون في مال مخصوص كالمال المزكى ، فأما الجواب عن قوله أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم . فهو مجمل ؛ لأنه لم يذكر قدر ما يستغنون به ، ولا جنسه ، وقد رواه ابن عمر مفسرا ، فكان الأخذ به أولى .

وأما الاحتجاج بقوله فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر فهو دلالة عليهم من وجهين ذكرناهما .

وأما احتجاجهم بحديث معاذ فلا دلالة فيه ؛ لأنه وارد في الجزية لا في الزكاة ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ في الزكاة من الحب حبا ، ثم عقب ذلك بالجزية فقال : خذ من كل حالم دينارا أو عدله من معافر اليمن ، فإن قيل : فقد قال معاذ " آخذه منكم مكان الذرة والشعير " وذلك غير واجب في الجزية ، قيل : يجوز أن يكون معاذ عقد معهم الجزية على أخذ الشعير من زروعهم ، يوضح أن ذلك من الجزية لا من الزكاة أن معاذا قال : " فإنه أنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة " والزكاة لا يجوز نقلها من جيران المال إلى غيرهم ، سيما عند معاذ الذي يقول : " أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته " . فثبت أن ذلك في الجزية التي يجوز نقلها .

وأما قياسهم على مال التجارة فغير صحيح ؛ لأن الزكاة تجب في قيمة الفرض ، وتخرج زكاة القيمة إلا أنها تجب في الفرض وتخرج قيمة الفرض ، وإن قياسهم على المنصوص عليه فباطل بإخراج نصف صاع عن صاع ، وشاة عن شاتين ، ثم المعنى في الأصل أنه منصوص عليه ، فلذلك جاز إخراجه ، وليست القيمة منصوصا عليها فلذلك لم يجز إخراجها ، وأما قولهم : لما جاز العدول من العين إلى الجنس جاز العدول من جنس إلى جنس ، فهذا قياس العكس ، على أن الواجب عليه أن يزكي من جنس ماله لا من عين ماله فلم يكن في ذلك عادلا عما وجب عليه إلى غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية