الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 188 ] باب ما يسقط الصدقة عن الماشية

قال الشافعي رضي الله عنه : " يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في سائمة الغنم زكاة وإذا كان هذا ثابتا فلا زكاة في غير سائمة . وروي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ليس في البقر والإبل العوامل صدقة حتى تكون سائمة ، والسائمة الراعية . وذلك أن يجتمع فيها أمران : أن لا يكون لها مؤنة في العلف ، ويكون لها نماء الرعي ، فأما إن علفت فالعلف مؤنة تحبط بفضلها وقد كانت النواضح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفائه ، فلم أعلم أحدا روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ منها صدقة ولا أحدا من خلفائه " .

قال الماوردي : وهذا كما قال :

الماشية ضربان : سائمة ومعلوفة . فالسائمة : الراعية ، وسميت سائمة لأنها تسم الأرض برعيها ، والسمة العلامة ، ولهذا قيل لأول المطر : وسمي ؛ لأنه يعلم الأرض بآثاره ، فالسائمة من الماشية فيها الزكاة إجماعا .

فأما المعلوفة من الغنم والعوامل من الإبل والبقر فلا زكاة فيها عند الشافعي ، وبه قال علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، ومعاذ بن جبل ، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء .

وقال مالك : الزكاة فيها واجبة كالسائمة .

وقال داود بن علي : معلوفة الغنم لا زكاة فيها ، ومعلوفة الإبل والبقر فيها الزكاة ، لقوله " في سائمة الغنم زكاة " فخصها بالذكر فوجب اختصاصها بالحكم ، واستدل من أوجب زكاة المعلوفة بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في أربعين شاة شاة ولم يفرق . قالوا : ولأنه حيوان يجوز في الأضحية فجاز أن تجب فيه الزكاة كالسائمة ، قالوا : ولأنه لا فرق بين السائمة والمعلوفة إلا في قلة المؤنة في السائمة ، وكثرتها في المعلوفة ، وقلة المؤنة وكثرتها لا تؤثر في إسقاط الزكاة ، وإنما تؤثر في قدر الزكاة ، ألا ترى أن الزروع والثمار إذا كثرت مؤنتها بالسقي قلت زكاتها ، وإذا قلت مؤنتها كثرت زكاتها ، فكان تأثير المؤنة في تغيير القدر لا في إسقاط الفرض .

[ ص: 189 ] ودليلنا ما روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في سائمة الغنم الزكاة فقال الشافعي : للغنم صفتان : السوم ، والعلف ، فلما علق وجوب الزكاة بإحدى الصفتين انتفت عن الأخرى ، فصرح بدليل الخطاب في هذا الموضع ، وروى عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس في العوامل صدقة وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس في العوامل صدقة .

وروى مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس في البقر العوامل صدقة . فهذه الأخبار الثلاثة نصوص لا يمكن دفعها . فإن قالوا : إنما لم تؤخذ منها زكاة لأنها لم تبلغ نصابا في الغالب . ففيه جوابان :

أحدهما : أنا إن سلمنا ذلك لهم غالبا في البقر فليس بغالب في الإبل ، وقد يملك دون النصاب سائمة ، وتمام النصاب معلوفة ، فيصيران نصابا كاملا ، فعلم أن نصه على العوامل لسقوط الزكاة فيها لا غير .

والثاني : أنه خص المعلوفة بنفي الزكاة عنها ، وحمل الخبر على ما دون النصاب يسقط فائدة التخصيص ؛ لأن المعلوفة والسائمة يتساويان في ذلك .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا صدقة في الإبل الجارة ولا القتوبة .

والجارة التي تجر بأزمتها وتقاد .

والقتوبة : التي يوضع على ظهورها الأقتاب ، هكذا قال ابن قتيبة في " غريب الحديث " ولأنه جنس تجب الزكاة في عينه بحول ونصاب ، فوجب أن يشرع نوعين : نوع تجب فيه الزكاة ، ونوع لا تجب فيه الزكاة ، كالذهب والفضة ، ولأنه مبتذل في مباح فوجب أن لا تجب فيه الزكاة ، كالثياب والعقار ، ولأن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية كالمواشي والزروع .

وتسقط في غير النامية كالآلة والعقار ، والعوامل مفقودة النماء في الدر والنسل ، وإنما ينتفع بها على غير وجه النماء ، كما ينتفع بالعقار على جهة السكنى ، فوجب أن تسقط عنها الزكاة كسقوطها عن العقار .

[ ص: 190 ] فأما استدلالهم بعموم الخبر فأخبارنا تخصه ، وأما قياسهم على السائمة فالمعنى فيها حصول الدر والنسل ، وأما قولهم : إن كثرة المؤنة تؤثر في قدر الفرض لا في إسقاطه ، فالجواب عنه : إنما لم تسقط الزكاة عنها لكثرة المؤنة ، وإنما أسقطناها لفقد النماء والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية