الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وأكره الفرار من الصدقة ، وإنما تجب الصدقة بالملك والحول لا بالفرار " .

قال الماوردي : وهذا كما قال :

إذا ملك الرجل نصابا في الحول ، ثم أخرج بعض النصاب عن ملكه قبل حلول الحول ، لم يخل حاله من أحد أمرين :

إما أن يفعل ذلك فرارا من الزكاة ، أو غير فرار ، فإن لم يفعل ذلك فرارا وإنما فعله معذورا ، كمن معه مائتا درهم وعليه دين درهم قضاه قبل الحول ، أو معه أربعون شاة أكثر الحول وعليه شاة من سلم حلت قبل الحول ، قضاها من الأربعين فلا زكاة عليه لنقصان النصاب ، ولا يكره عليه لوجوب ما فعله ، وإن فعل ذلك فرارا كمن معه أربعون شاة باع منها قبل الحول شاة ، أو مائتا درهم أنفق منها درهما هربا من الزكاة وفرارا من الوجوب ، ففراره مكروه ، وهو مسيء به ، ولا زكاة عليه .

وقال مالك بن أنس : عليه الزكاة ولا تسقط عنه لفراره استدلالا بشيئين :

أحدهما : أن الله تعالى تواعد لمن تعرض لإسقاط حق الله تعالى ومنع الواجب فيه بإتلاف ماله ، فقال تعالى : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين . [ القلم : 17 إلى 21 ] ، وذاك أن القوم أرادوا أن يتعجلوا أخذ ثمارها قبل علم المساكين بها ليمنعوهم الواجب فيها ، ألا ترى أنه تعالى قال : فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ، [ القلم : 23 ، 24 ] ، فإذا كان الوعيد عليه مستحقا كان فعله محرما ، وفعل المحرمات لا يمنع حقوق الله تعالى الواجبات .

والثاني : أن إسقاط المال كاجتلاب المال ، فلما كان اجتلاب المال لا يحمل بوجه محرم ، مثل أن يقتل مورثا فلا يرثه ، كذلك إسقاط المال لا يحصل بوجه محرم .

ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " وما أتلفه لأجل الفرار لم يحل عليه الحول ، والباقي دون النصاب ، فاقتضى أن لا تلزمه الزكاة ، فإن قيل : لا نسلم أن [ ص: 197 ] الباقي لا زكاة فيه إذا نقص عن النصاب ، دللنا عليه بأن نقول : لأنه مال تجب الزكاة في عينه نقص عن النصاب قبل الحول فوجب أن تسقط عنه الزكاة ، كما لو كان الناقص لعذر ، فإن قيل : لا نسلم أن ما أتلفه لا زكاة فيه ، دللنا عليه بأنه مال زال ملكه عنه قبل الحول ، فوجب أن لا تجب فيه الزكاة كما لو أتلفه قبل الحول بشهر .

فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

أحدهما : أنه عاقبهم على تركهم الاستثناء ، وهو قول إن شاء الله .

والثاني : أنهم عزموا على الفعل ولم يفعلوا ، والعقاب إن استحقوه فبفعلهم لا بعزمهم ، فلم يكن في الآية دلالة .

وأما قوله إنه إسقاط حق بسبب محرم فغير مسلم ؛ لأن تصرف الرجل في ماله غير محرم ، وإنما قصده مكروه .

التالي السابق


الخدمات العلمية