الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ولو أصدقها أربعين شاة بأعيانها فقبضتها أو لم تقبضها ، وحال عليها الحول فأخذت صدقتها ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف الغنم وبنصف قيمة التي وجبت فيها ، وكانت الصدقة من حصتها من النصف ولو أدت عنها من غيرها رجع عليها بنصفها : لأنه لم يؤخذ منها شيء ، هذا إذا لم تزد ولم تنقص ، وكانت بحالها يوم أصدقها أو يوم قبضتها منه ولو لم تخرجها بعد الحول حتى أخذت نصفها فاستهلكته ، أخذ من النصف الذي في يدي زوجها شاة ورجع عليها بقيمتها " .

قال الماوردي : وهذا كما قال :

إذا تزوج امرأة وأصدقها أربعين من الغنم فذلك ضربان :

أحدهما : أن تكون موصوفة .

[ ص: 202 ] والثاني : أن تكون عينا حاضرة فإن كانت موصوفة بالذمة ، فلا زكاة على الزوجة ، وإن ملكت جميع الصداق بالعقد ، ولو أصدقها مائتي درهم وكان الزوج مليا بها لزمها الزكاة .

والفرق بينهما : أن السوم شرط في زكاة الغنم لا يصح وجوده في الذمة ، فلم تجب فيها الزكاة ، وليس السوم شرطا في الدراهم فوجبت فيها الزكاة ، وإن كان الصداق عينا حاضرا كأنه أصدقها أربعين بأعيانها فقد ملكتها الزوجة بالعقد ملكا تاما : لأن الزوج قد ملك عليها ما في مقابلته وهو البضع ، فاقتضى أن تملك عوضه ، وإن ملكت جميع الصداق بالعقد ، جرى عليه حكم الزكاة ، واستؤنف له الحول من يوم العقد ، سواء كان في قبض الزوجة أو في يد الزوج .

وقال أبو حنيفة : " لا يلزمها زكاته ما لم تقبضه ، فإذا قبضته استأنفت حوله " وهذا غلط : لأن يد الزوج على الصداق لا يمنع من تصرفها فيه ببيع أو هبة أو غيره كالمقبوض ، فوجب أن لا يمنع وجوب الزكاة كالمقبوض ، فإذا ثبت أن حكم الحول جار على صداقها سواء كان في يد الزوج أو في يدها فما لم يطلقها الزوج فلا مسألة ، وإن طلقها الزوج لم يخل حال طلاقه من أحد أمرين : إما أن يكون قبل الدخول أو بعده ، فإن كان بعد الدخول فلا رجوع له بشيء من الصداق والغنم التي أصدق على ملكها ، وإن طلقها قبل الدخول فله الرجوع بنصف ما أصدق لقوله تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ، [ البقرة : 237 ] ، فإذا وجب له الرجوع بنصف الصداق لم يخل حال طلاقه من أحد أمرين إما أن يكون قبل حلول الحول أو بعده ، فإن كان قبل الحلول فقد ملك الزوج نصف الصداق وبقي لها نصفه ، وبطل حكم ما مضى من الحول إن اقتسما ، ولا زكاة على واحد منهما فيما حصل له من نصف الصداق : لأنه أقل من نصاب ، إلا أن يكون مالكا لهما من النصاب ، وإن لم يقتسمها كانا خليطين في نصاب يزكيانه بالخلطة ، إلا أن حول الزوجة أسبق من حوله فتكون كمن له أربعون شاة أقامت بيده لستة أشهر ثم باع نصفها وقد ذكرناه ، فهذا إن كان طلاق الزوج قبل الحول ، وإن كان طلاقه بعد الحول فقد وجبت زكاة الغنم على الزوجة ، لحلول الحول ، ولا يخلو حالها من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تخرج الزكاة من مالها .

والثاني : أن تخرج الزكاة منها .

والثالث : أن لا تخرج عنها . فالقسم الأول أن تخرج الزكاة من مالها ، والثاني أن تخرج الزكاة منها ، والثالث أن لا تخرج الزكاة من مالها . فللزوج أن يرجع بنصف الأربعين التي أصدق لوجود الصداق بكماله واستحقاقه نصفه بطلاقه ، فإن قيل : فقد استحق المساكين [ ص: 203 ] منها شاة إذا قيل بوجوب الزكاة في العين ، فإذا أعطت بدل تلك الشاة من مالها فقد استحدثت ملكها بغير صداق فلم يكن للزوج الرجوع بنصفها ، كالأب إذا وهب لابنه مالا فباعه ثم ابتاعه لم يرجع الأب به على أحد الوجهين :

قيل : الفرق بينهما أن الأب يرجع بما وهب إن كان موجودا ولا يرجع ببدله إن كان تالفا ، وبيع الابن إتلاف يبطل الرجوع ، وابتياعه استحداث ملك فلم يوجب الرجوع وللزوج أن يرجع بما أصدق إن كان موجودا ، ويبدله إن كان تالفا ، فإذا كانت العين موجودة والرجوع لم يبطل ، كان الرجوع بها أولى من العدول إلى بدلها .

والقسم الثاني : أن تكون الزوجة قد أدت الزكاة منها ، فطلق الزوج وهي تسعة وثلاثون شاة ، ففي كيفية رجوع الزوج ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن يأخذ من الموجود بقيمة نصف الأربعين ، وهو الذي نقله المزني في المختصر : لأن الرجوع إلى القيمة طريقه الاجتهاد ، فإذا أمكن الرجوع إلى العين وأخذ نصف الصداق منها فلا معنى للاجتهاد والعدول إلى القيمة .

والقول الثاني : أنه يرجع عليها بنصف الموجود ونصف قيمة الشاة التالفة ، نص عليه في كتاب الزكاة من " الأم " : لأنه لو كان جميع الصداق موجودا رجع بنصفه ، ولو كان تالفا رجع بنصف قيمته ، فوجب إذا كان بعضه موجودا وبعضه تالفا أن يعتبر حكم ما كان موجودا بحكمه على الانفراد فيرجع بنصفه ، وحكم ما كان منه تالفا بحكمه على الانفراد فيرجع بنصف قيمته .

والقول الثالث : أنه بالخيار بين الرجوع بنصف الموجود ونصف قيمة التالف ، وبين أن يعدل عن نصف الموجود ويأخذ نصف قيمة الجميع ، نص عليه في كتاب الصداق ، وإنما كان مخيرا بين ذلك : لأن في رجوعه بنصف الموجود ونصف قيمة التالف تفريقا لصفقته ، فصار ذلك عيبا يثبت به الخيار .

والقسم الثالث : أن تكون زكاتها باقية لم تخرجها بعد فيمنعان من القسمة حتى تخرج عنها الزكاة ، لتعلق حق المساكين بها ، فإن أخرجت زكاتها من غيرها اقتسماها على ما مضى ، فإن أخرجت زكاتها منها كان على ما ذكرناه ، وإن اقتسماها قبل إخراج زكاتها ففي القسمة وجهان مخرجان من اختلاف قوله في الزكاة هل وجبت في الذمة أو في العين ؟

أحدهما : القسمة باطلة ، إذا قيل بوجوبها في العين : لأن المساكين شركاء بقدر الزكاة ، وإذا اقتسم شريكان من ثلاثة لم تصح القسمة ، فعلى هذا يوقف أمرها حتى تؤدى زكاتها ، ويكون الحكم فيها على ما مضى .

[ ص: 204 ] والوجه الثاني : أن القسمة جائزة إذا قيل بوجوب الزكاة في الذمة وارتهان العين بها : لأن الرهن لا يمنع من القسمة إذا لم يكن فيها ضرر بالمرتهن ، فعلى هذا لا تخلو حالهما عند مطالبة الوالي بالزكاة من أربعة أحوال :

إما أن يكون ذلك باقيا في أيديهما جميعا ، أو تالفا منهما جميعا ، أو يكون ما في يد الزوجة باقيا ، وما في يد الزوج تالفا ، أو ما في يد الزوجة تالفا وما في يد الزوج باقيا .

فالحالة الأولى : أن يكون باقيا في أيديهما جميعا ، فيأخذ الوالي الزكاة مما في يد الزوجة دون الزوج : لأن الزكاة عليها وجبت ، فإذا أخذ الزكاة منها استقر ملك الزوج على ما حصل له بالقسمة .

والحالة الثانية : أن يكون ذلك تالفا منهما جميعا ، فأيهما يطالب بالزكاة على وجهين :

أحدها : أن الوالي يطالب الزوجة بها دون الزوج : لأن الوجوب عليها استقر .

والثاني : أن للوالي مطالبة كل واحد منهما : لأن الزكاة وجبت فيما كان بأيديهما ، فإن طالب الزوجة لم يرجع بها على الزوج ، وإن طالب الزوج وأغرمه رجع بها على الزوجة .

والحالة الثالثة : أن يكون ما في يد الزوجة باقيا وما في يد الزوج تالفا فيأخذ الوالي الزكاة مما في يد الزوجة ، ولا مطالبة له على الزوج .

والحالة الرابعة : أن يكون ما في يد الزوجة تالفا ، وما في الزوج باقيا ، فيأخذ الوالي الزكاة مما في يد الزوج : لأنه إذا تعذر أخذ الزكاة ممن وجبت عليه وجب أخذها من المال الذي وجبت فيه ، فإذا أخذ الزكاة مما بيده فهل تبطل القسمة بذلك أم لا ؟ على وجهين : أحدهما : أن القسمة تبطل بذلك : لأن الوالي إنما أخذ ذلك بسبب متقدم فصار قدر الزكاة كالمستحق منها وقت القسمة ، فعلى هذا إذا بطلت القسمة فهو بمثابة وجود الزوج بعض الصداق وعدم بعضه فيكون على الأقاويل الثلاثة .

والوجه الثاني : أن القسمة لا تبطل : لأن الوجوب كان في ذمة الزوجة ، وأخذ الوالي كان بعد صحة القسمة فلم يكن الأخذ الحادث مبطلا للقسمة المتقدمة ، كما لو أتلفت الزوجة شاة فيما حصل في يد الزوج بالقسمة ، فعلى هذا للزوج أن يرجع على الزوجة بقيمة الشاة المأخوذة إن كانت مثل ما وجب عليها ، فإن كان الوالي قد أخذ منه أفضل من الواجب لم يرجع عليها بالفضل الذي ظلمه الوالي به .

التالي السابق


الخدمات العلمية