الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت وجوبها في الثمار فهي واجبة في ثمر النخل أو الكرم دون ما عداهما من الثمار ، إذا بلغ كل واحد منهما خمسة أوسق تمرا أو زبيبا ، ولا شيء فيما دون ذلك . هذا مذهب الشافعي وبه قال من الصحابة جابر وابن عمر . ومن الفقهاء مالك ، والليث بن سعد ، والأوزاعي وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد بن حنبل .

وقال أبو حنيفة : العشر واجب في قليله وكثيره من غير اعتبار نصاب استدلالا بقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] فكان على عمومه في قليله وكثيره وبعموم قوله ، صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء العشر

وروايته عن أبان بن أبي عياش عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما سقت السماء ففيه العشر ، وما سقي بنضح أو غرب فنصف العشر في قليله وكثيره ، ولأنه حق في مال ليس من شرط وجوبه الحول ، فلم يكن من شرط وجوبه النصاب ، كخمس الغنائم والركاز ، ولأن للزكاة شرطين الحول والنصاب ، فلما لم يكن الحول في الثمار معتبرا ، لم يكن النصاب فيها معتبرا .

وتحريره قياسا : أنه أحد شرطي الزكاة فوجب أن لا يعتبر في الثمار كالحول ولأنه لو كان في ابتدائه وقص يعفى عنه : لكان في انتهائه وقص يعفى عنه كالماشية ، فلما لم يكن في أثنائه عفو اقتضى أن لا يكون في ابتدائه عفو .

ودليلنا : رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فتعلق الخبر بنفي الصدقة فيما دون خمسة أوسق وهو موضع الخلاف ، ودليله بينها في خمسة أوسق فما زاد ، وهو موضع وفاق ، وروى أبو سعيد وجابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا زكاة في زرع ولا نخل ولا كرم حتى يبلغ خمسة أوسق

وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا زكاة في شيء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الزكاة والوسق ستون صاعا وهذه نصوص لا [ ص: 211 ] احتمال فيها ، فإن قيل : ما دون الخمسة لا تجب فيه الزكاة ، وإنما يجب فيه العشر ألا ترى أنا نأخذه من المكاتب والذمي ، وإن لم تؤخذ منهما الزكاة ، قيل : هذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن الشرع قد ورد بتسمية العشر زكاة ، وهو قوله في حديث جابر : لا زكاة في شيء من الحرث . . . إلى قوله : فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الزكاة .

والثاني : أنه نفى عما دون الخمسة ما أثبته في الخمسة ، فلم يصح تأويلهم : ولأنه جنس مال تجب فيه الزكاة فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالفضة والذهب ، ولأنه حق مال يجب صرفه في الأصناف الثمانية فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالمواشي ، ولأن كل حق تعلق بمال مخصوص اعتبر فيه قدر مخصوص كالذهب والفضة وعكسه حقوق الآدميين ، ولأن النصاب إنما اعتبر في المواشي ليبلغ المال حدا يتسع للمواساة وهذا موجود في الثمار ، فأما احتجاجهم فعام وما ذكرناه أخص ، وأما الخبر وهو قوله فيما سقت السماء العشر فعنه جوابان : ترجيح واستعمال ، فأما الترجيح فمن وجهين :

أحدهما : أن قوله فيما سقت السماء العشر بيان في الإخراج مجمل في المقدار ، وقوله : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة بيان في المقدار مجمل في الإخراج ، فكان بيان المقدار من خبرنا قاضيا على إجمال المقدار من خبرهم ، كما أن بيان الإخراج من خبرهم قاض على إجمال الإخراج من خبرنا .

والثاني : أن خبرهم متفق على تخصيص بعضه : لأن أبا حنيفة لا يوجب في الحشيش والقصب والحطب ولا في أرض الخراج شيئا ، وخبرنا خبر متفق على تخصيص بعضه ، فكان أولى من خبرهم .

وأما الاستعمال ففي الخمسة الأوسق : لأنه أعم وخبرنا أخص فيستعملان معا وأما قياسهم على خمس الغنيمة والركاز ، فالمعنى في الغنيمة : أنه لما لم يعتبر النصاب في شيء من جنسها بحال لم يكن معتبرا فيها بكل حال ، ولما كان النصاب معتبرا في بعض أجناس الزكاة كان معتبرا في جميع أجناسها .

وأما الركاز فالمعنى فيه : أنه مأخوذ بغير عوض ولا تعب ، فلم يعتبر فيه النصاب ، وليس كذلك الثمار التي يلحق فيها تعب ويلزم فيها عوض ، وأما قياسهم على الحول فمنتقض على أصلهم بزكاة الفطر ، يعتبرون فيها النصاب ولا يعتبرون الحول على أن المعنى في الحول أنه قصد به تكامل النماء ، والثمار يتكامل نماؤها قبل الحول ، فسقط اعتبار الحول [ ص: 212 ] في الثمار أو إن كان معتبرا في غيرها ، والنصاب إنما اعتبر ليبلغ المال قدرا يتسع للمواساة ، وهذا المعنى موجود في الثمار ، كوجوده في غيرها .

وأما قولهم لو كان في ابتدائها عفو لكان في انتهائها عفو فمنتقض على أصلنا بالذهب والفضة ، على أن المعنى في المواشي حيث دخل العفو في أثناء نصابها : لأن إيجاب الكثير في جميع الزيادة مشقة تلحق أرباب الأموال وأهل السهمان وليس كذلك في الزروع والثمار .

التالي السابق


الخدمات العلمية