الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وأكره الورق المغشوش لئلا يغر به أحدا " .

قال الماوردي : أما ضرب الورق المغشوش فيكره للسلطان وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا ولما فيه من إفساد النقود وغبن ذوي الحقوق وغلاء الأسعار ، وانقطاع الجلب [ ص: 260 ] المفضي جميع ذلك إلى اختلاف الأمور ، وفساد أحوال الجمهور فأما جواز المعاملة بها ووجوب الزكاة فيها ، فهما فصلان :

نبدأ بأحدهما : وهو جواز المعاملة بها : اعلم أن المغشوش ضربان : ضرب يكون غشه لرداءة جنسه ، فتكره المعاملة به لمن لا يعرفه إلا بعد إعلامه ، لما فيه من الغرور والتدليس وفي مثل ذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من زافت دراهمه فليأت السوق فليشتر بها الثوب السميق ، وقد ذكرنا وجوب الزكاة فيه .

والضرب الثاني : ما كان غشه من غيره لا من جنسه كالفضة المختلطة بغيرها ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون قدر فضته معلوما ، وجنس ما خالطه وغش به معروفا ، قد اشتهرت حاله عند الكافة وعلمه الخاصة والعامة لا يختلف ضربه ولا يتناقض فضته ، فالمعاملة به جائزة حاضرا بعينه وغائبا في الذمة .

والضرب الثاني : أن يكون قدر فضته مجهولا ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون ما خالط الفضة مقصودا له قيمة كالمس والنحاس .

والضرب الثاني : أن يكون مستهلكا لا قيمة له كالزئبق والزرنيخ ، فإن كان مقصودا فعلى ضربين :

أحدهما : أن تكون الفضة والغش غير ممتزجين .

والثاني : أن يكونا ممتزجين ، فإن كانت الفضة غير ممازجة للغش من النحاس والمس وإنما الفضة على ظاهرها والمس في باطنها ، فالمعاملة بها غير جائزة ، لا معينة ولا في الذمة : لأن الفضة وإن شوهدت فالمقصود الآخر غير معلوم ولا مشاهد ، كما لا تجوز المعاملة بالفضة المطلية بالذهب : لأن أحد مقصوديها غير معلوم ولا مشاهد ، وإن كانت الفضة ممازجة للغش من النحاس والمس لم تجز المعاملة بها في الذمة للجهل بها ، كما لا يجوز السلم في المعجونات للجهل بها ، وفي جواز المعاملة بها إذا كانت حاضرة معينة وجهان :

أحدهما : لا يجوز للجهل بمقصودها كتراب المعادن .

والوجه الثاني : يجوز وهو أظهر وبه قال أبو سعيد الإصطخري ، وأبو علي بن أبي هريرة كما يجوز بيع الحنطة المختلطة بالشعير إذا شوهدت ، وإن جهل قدر كيل واحد منهما ، وكما يجوز بيع المعجونات إذا شوهدت وإن لم يجز السلم فيها ، وخالف بيع تراب المعادن : لأن [ ص: 261 ] التراب غير مقصود ، فهذا الكلام في الغش إذا كان مقصودا ، فأما إن كان غير مقصود فعلى ضربين :

أحدهما : أن تكون الفضة والغش ممتزجين فلا تجوز المعاملة بها ، لا معينة ولا في الذمة : لأن مقصودهما مجهول بممازجة ما ليس بمقصود كتراب المعادن .

والثاني : أن تكون الفضة والغش غير ممتزجين وإنما الفضة على ظاهرها والغش في باطنها كالزرنيخية فتجوز المعاملة بها إذا كانت حاضرة معينة : لأن المقصود منها مشاهد ، ولا تجوز المعاملة بها في الذمة : للجهل بمقصودها ، فهذا حكم الورق المغشوشة في المعاملة ، لكن لا يجوز بيع بعضها ببعض ولا بيعها بالفضة : لأجل الربا ، وقد روي عن ابن مسعود أنه باع سقاطة بيت المال من المغشوش والزائف بوزنه من الورق الجيد ، فأنكر ذلك عمر بن الخطاب ورد البيع ، فلو أتلفها رجل على غيره لم يلزمه مثلها : لأنه لا مثل لها ولزمه رد قيمتها ذهبا ، والحكم في الدنانير المغشوشة كالحكم في الورق المغشوشة .

وقال أبو حنيفة : إن كان غشها مثل نصفها أو أكثر فلا زكاة فيها حتى تباع قدر حصتها نصابا .

التالي السابق


الخدمات العلمية