الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 282 ] باب زكاة التجارة

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا سفيان بن عيينة عن يحيي بن سعيد عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماسا قال مررت على عمر بن الخطاب وعلى عنقي أدمة أحملها فقال ألا تؤدي زكاتك يا حماس ؟ فقلت يا أمير المؤمنين مالي غير هذه وأهب في القرظ فقال ذاك مال فضع فوضعتها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة " .

قال الماوردي : وهذا كما قال :

الزكاة واجبة في أموال التجارة في كل عام هذا مذهبنا .

وبه قال من الصحابة عمر ، وابن عمر ، وجابر ، وعائشة - رضي الله عنهم - والفقهاء السبعة ، وأهل العراق .

وذهبت طائفة إلى أنه لا زكاة فيه بحال .

وبه قال من الصحابة ابن عباس ومن الفقهاء : داود احتجاجا بقوله صلى الله عليه وسلم : ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة

فأخرجها بالتجارة عن الحال التي تجب فيها الزكاة .

ولو كان وجوب الزكاة في التجارة وغيرها سواء ، لم يكن لأمره بالتجارة معنى ، بقوله صلى الله عليه وسلم : " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فكان العفو على عمومه في التجارة وغيرها .

قالوا : ولأن الأموال التي تجب زكاتها فالزكاة في عينها دون قيمتها كالمواشي والثمار وما لم تجب الزكاة في عينها لم تجب في قيمتها ، كالأثاث والعقار فلما كان مال التجارة لا تجب الزكاة في عينه ، لم تجب الزكاة في قيمته .

[ ص: 283 ] قالوا : ولأن ما فيه الزكاة من الأموال لا تأثير إليه في سقوط زكاتها بحال ، كالمواشي والثمار فلما سقطت زكاة التجارة إذا نوي بها القنية ، علم أن زكاتها غير واجبة .

قالوا : ولأن ما لا زكاة فيه قبل إرصاد النماء ، فلا زكاة فيه ، وإن عرض للنماء كالعقار إذا أوجر والمعلوفة إذا استعملت فلما كانت عروض التجارة لا زكاة فيها ، قبل إرصادها للتجارة فلا زكاة فيها ، وإن أرصدت للتجارة فهذا احتجاج من أسقط زكاة التجارة .

وأما حجة من أوجب زكاتها مرة ، فهو أن قال : المقصود بالتجارة حصول النماء بالربح ، والربح إنما يحصل إذا نض الثمن ، فوجب أن تتعلق به زكاة عام واحد ، كالثمار . قالوا : ولأن في إيجاب زكاتها قبل أن ينض ثمنها رفقا بالمساكين وإجحافا برب المال ، لأنهم تعجلوا من زكاتها ما لم يتعجل المالك من ربحها ، وأصول الزكوات موضوعة على التسوية بين المساكين وبين رب المال في الارتفاق ، وقد كان يجب تقديم هذه الدلالة على تلك : لأن هذه تدل على تأخير الزكاة ، إلا أن ينض الثمن وتلك تدل على أنه إذا نض ثمنه لم يلزمه إلا زكاة عام واحد ، لكن سنح الخاطر بالأولى ثم أجاب بالثانية فجرى القلم بهما كذلك .

والدلالة على وجوب زكاة التجارة قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة ، [ التوبة : 103 ] ، في أموالهم حق معلوم ، [ المعارج : 24 ] ، وأموال التجارة أعم الأموال فكانت أولى بالإيجاب ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ليس في المال حق سوى الزكاة " فلما كان مانعا من الحق في جميع الأموال دل على أن ما أثبت في الزكاة عاما في جميع الأموال : لأن الزكاة المثبتة مستثناة من الحق المنفي .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم : بعث عمر بن الخطاب مصدقا فرجع شاكيا من خالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب وابن جميل فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما خالد فقد ظلمتموه : لأنه حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله والأعتد : الخيل ، ومعلوم أن الأدرع والخيل لا تجب فيها زكاة العين فثبت أن الذي وجب فيها زكاة التجارة .

وروى مالك بن أوس بن الحدثان قال : كنت عند عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فدخل عليه أبو ذر فقال له : كيف خبرك يا أبا ذر ؟ فقال بخير ثم قام إلى سارية من سواري المسجد فبادر الناس إليه واحتوشوه وكنت فيمن احتوشه فقالوا له : حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته قاله بالزاي معجمة ومعلوم أن البز لا تجب فيه زكاة العين فثبت أن الواجب فيه زكاة التجارة .

[ ص: 284 ] وروى سليمان بن سمرة عن أبيه سمرة بن جندب ، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع

وروى ابن لهيعة عن عراك بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة إلا زكاة التجارة .

وروى الحكم عن مجاهد في قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم [ البقرة : 267 ] ، قال : زكاة التجارة ، ولأن الذهب والفضة إنما خصا من بين سائر الجواهر بإيجاب الزكاة فيها لإرصادهما للنماء ، وطريق النماء بالتقلب والتجارة فلم يجز أن يكون الموضوع لإيجاب الزكاة سببا لإسقاطها ، وأما الدلالة على من زعم أنه لا يجب إخراج زكاتها إلا إذا نض ثمنها ، فحديث حماس قال : " مررت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلى عنقي أدمة أحملها فقال : ألا تؤدي زكاتها يا حماس فقلت يا أمير المؤمنين ما لي غير هذه وأهب في القرظ فقال : ذاك مال فوضع فوضعتها بين يديه فحسبها ، فوجدها قد وجبت فيها الزكاة ، فأخذ منها الزكاة " ، فكان في هذا الخبر دليلان :

أحدهما : على وجوب زكاة التجارة .

والثاني : على وجوب إخراجها قبل أن ينض ثمنها .

والدلالة على أن عليه زكاتها في كل عام ، هو أنه مال يعتبر فيه الحول فوجب أن يزكى في كل حول كالفضة والذهب فهذه دلالة على الفريقين ، ولولا أن هذه المسألة أصل من أصول الديانات لاقتصرت على بعض هذه الدلائل ، ولكن ليس إذا قل أنصار المخالف وضعف حزبه ما ينبغي أن لا يوفى العلم حقه .

وأما الجواب عن قوله : ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ، فهو إنما أمر بالتجارة ليكون ما يعود من ربحها خلفا عما خرج من زكاتها ، ولم يأمر بها لإسقاط زكاتها ، إذ ليس من شأنه أن يأمر بما يسقط لله تعالى حقا أو يبطل له سبحانه واجبا .

وأما قوله : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ، فلسنا نوجب الصدقة فيها وإنما نوجبها في قيمتها على أن عراك بن مالك قد استثنى في حديثه زكاة التجارة ، فدل على أن المراد بهذا الحديث ما لم يكن للتجارة .

[ ص: 285 ] وأما قولهم : إن ما وجبت زكاته فالزكاة في عينه دون قيمته قلنا : الزكاة وجبت في القيمة دون العين ، وإخراجها من القيمة دون العين فما وجبت فيه الزكاة فمنه يؤدى لا من غيره وليس إذا لم تجب في العين يقتضي أن لا تجب في القيمة ، هذا مما لا يرجع فيه إلى أصل ، ولا يعتبر بنظير ولا يقصد بدليل ، فلم يكن فيه حجة على أن القيمة عين ، والزكاة فيها .

وأما قولهم : إن ما فيه الزكاة لا تأثير للنية فيه قلنا : ليست النية مسقطة ، ولا موجبة ، وإنما إرصاده للنماء بالتجارة موجب لزكاته ، كما أن إرصاد الفضة والذهب للتحلي به مسقط لزكاته ، فلما لم يجز أن يقال : إن النية في الحلي مسقطة لزكاته كذلك لا يقال : إن النية في التجارة موجبة لزكاته .

وأما قولهم : إن ما لا زكاة فيه قبل إرصاده للنماء ، فلا زكاة فيه ، وإن أرصد للنماء ففاسد بالحلي لا زكاة فيه ، وإذا أرصد للنماء ، ففيه الزكاة والماشية المعلوفة لا زكاة فيها ، ولو أرصدت للنماء بالسوم ، وجبت فيها الزكاة على أنه لا يجوز أن يعتبر ما أرصد للنماء بما لم يرصد له : لأن الزكاة تجب بإرصاده للنماء وتسقط بفقده ، وسائر الأصول يشهد به .

وأما من منع من إخراج زكاتها قبل أن ينض ثمنها اعتبارا بالثمرة ، ففاسد بما نض من ثمنها قبل الحول ، وما ذكره من ارتفاق المساكين قبل ربه ، ولو كان هذا معتبرا فيما له حول لمنع المالك من تعجيل الارتفاق قبل المساكين ، فلما جاز أن يتعجل الارتفاق بربح ما حصل قبل الحول ، وإن لم يرتفق المساكين بمثله جاز أن يتعجل المساكين ما لم ينض ثمنه ، ولم يحصل ربحه ، وإن لم يرتفق المالك بمثله وهذا جواب عن الدلالتين معا .

التالي السابق


الخدمات العلمية