الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 394 ] كتاب الصيام

أما الصوم في اللغة : فهو الإمساك ، يقال صام فلان بمعنى أمسك عن الكلام ، قال الله تعالى : إني نذرت للرحمن صوما [ مريم : 26 ] ، أي : صوما وسكوتا ألا ترى إلى قوله : فلن أكلم اليوم إنسيا [ مريم : 26 ] والعرب تقول لوقت الهاجرة ، قد صام النهار لإمساك الشمس فيه عن السير وتقول خيل صيام بمعنى واقفة ، قد أمسكت عن السير قال النابغة :

خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

وقال الآخر :

نضرب الهام والدوابر منها     ثم صامت بنا الجياد صياما

أي : قامت فلم تنبعث ، ثم جاء الشرع فقرر الصوم ، إمساكا مخصوصا في زمان مخصوص ، فانتقل الصوم عما كان عليه في اللغة إلى ما استقر عليه في الشرع .

فصل : والأصل في وجوب الصيام قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام [ البقرة : 183 ] الآية قوله تعالى : كتب عليكم أي : فرض عليكم كما قال تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ المجادلة : 21 ] أي : فرض الله ثم قال : أياما معدودات [ البقرة : 184 ] فلم يعين فيها زمان الصيام ثم بينه بقوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185 ] فعين زمانه بعد أن ذكره مبهما ، وحتم صيامه بعد أن كان الإنسان فيه مخيرا بين صيامه وإفطاره ، وذلك معنى قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ البقرة : 184 ] ، وبه قال أكثر أهل [ ص: 395 ] التفسير ، حتى نسخ الله ذلك بقوله : فليصمه ، ودل على وجوب الصيام من طريق السنة ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت ودل عليه حديث طلحة بن عبيد الله أن رجلا ثائر الشعر أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع لصوته دوي ، يسأل عن الإسلام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت " ودل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم صلوا خمسكم ، وأدوا زكاتكم طيبة بها نفوسكم ، وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم ثم أجمع المسلمون على وجوب الصيام ، وهو أحد أركان الدين فمن جحده فقد كفر ، ومن أقر به ولم يفعله فقد فسق ، غير أنه لا يقتل ، فإن قيل : فلم لا أوجبتم عليه القتل ، كما أوجبتموه على تارك الصلاة ، قلنا لأمرين :

أحدهما : أن الصلاة مشابهة للإيمان : لأنهما قول اللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، فقتل تاركها كما يقتل تارك الإيمان ، وليس كذلك الصيام .

والثاني : أن الصلاة لا يمكن استيفاؤها من تاركها إلا بفعله فلذلك كان تركها موجبا لقتله ، والصيام يمكن استيفاؤه من تاركه بأن يمنع الطعام والشراب وما يؤدي إلى إفطاره ، فلم يكن تركه موجبا لقتله . فإذا تقرر ما ذكرنا فصيام شهر رمضان واجب على كل مسلم بالغ عاقل ، من ذكر وأنثى وحر وعبد وأما الصبي والمجنون فلا صوم عليهم لارتفاع القلم عنهما .

[ ص: 396 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية