الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما وقت النية ومحلها ، فقال الشافعي : " إن عليه أن ينوي الصيام كل يوم قبل الفجر ، فإن نوى بعده لم يجزه " وقال أبو حنيفة : " إن نوى بعد الفجر ، وقبل الزوال لصوم [ ص: 401 ] مستحق الزمان كشهر رمضان ، والنذر الذي قد تعين زمانه أجزأه ، فأما ما لم يتعين زمانه كالقضاء والكفارات ، فلا بد فيه من نية قبل الفجر " وقال مالك : " عليه أن ينوي قبل الفجر ، إلا أنه إن نوى في الليلة الأولى لجميع الشهر أجزأه " فأما أبو حنيفة فاستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي في يوم عاشوراء أن من أكل فليمسك بقية يومه ، ومن لم يأكل فليصم قال ومعلوم أنه إنما بعث إليهم في نهار ذلك اليوم ، لا في ليله مع كون عاشوراء في ذلك اليوم فرضا ، فدل على جواز النية من النهار قال ، ولأنه صوم غير ثابت في ذمته ، فوجب أن لا يفتقر إلى نية من الليل أصله صوم التطوع قال : ولأنه لما شق على الناس أن تكون النية منوطة بوقت الدخول في الصوم ، وهو طلوع الفجر رخص لهم في التقدم على الفجر ، فكذلك أيضا جوز لهم بهذا المعنى التأخر عن الفجر ، والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه ، رواية الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل وقد روت ذلك أيضا عائشة وأم سلمة وابن عمر رضي الله عنهم ، وفي رواية بعضهم " لمن لم يبيت الصيام من الليل " وفي رواية بعضهم " لمن لم ينو الصيام قبل الفجر " فنفى أن يكون الصوم محكوما بصحته إلا بعد تقدم النية من الليل ، ولأنه صوم يوم واجب فوجب أن يكون تقديم النية من شرطه من الليل ، كالقضاء والكفارات ولأنه صوم مستحق عري عن النية له قبل الفجر ، فوجب أن لا يصح كالنذر والكفارة ، ولأنها عبادة تؤدى وتقضى فوجب أن يكون محل النية في أدائها كمحل النية في قضائها ، أصله الصلاة . فأما استدلاله بحديث عاشوراء ، وأهل العوالي فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن عاشوراء لم يكن فرضا بل كان تطوعا لقوله فيه : صيام عاشوراء كفارة سنة ، ولم يحفظ عنه غير هذا ، ألا تراه لم يأمر من أكل بالقضاء مع شدة حاجتهم إلى إثبات الحكم فيه أن لو كان واجبا ، فدل تركه أن يأمر من أكل بالقضاء على أنه كان تطوعا .

والجواب الثاني : هو أنا وإن سلمنا لهم أنه كان فرضا فإنا نقول : إن ابتداء فرضهم كان من حين بلغهم ، وأنفذ إليهم ومن حينئذ تعلقت عليهم العبادة ، فلم يخاطبوا بما تقدم كأهل قباء لما استداروا في ركوعهم إلى الكعبة من حين بلغهم ، سقط عنهم حكم الاستقبال بما تقدم من صلاتهم قبل علمهم .

والجواب الثالث : أن صوم عاشوراء وإن كان فرضا فقد نسخ باتفاق العلماء وإذا نسخ [ ص: 402 ] الحكم من شيء لم يجز أن يلحق به شيء قياسا أو استدلالا ، وأما قياسهم على التطوع بعلة أنه غير ثابت في الذمة فلا يصح من وجهين :

أحدهما : أن صوم التطوع يجعل فيه الصائم متقربا ببعض يوم ، وذلك من وقت ما يؤدى على قول بعض أصحابنا ، ولا يحصل له مثل ذلك في الواجب .

والثاني : أن في الواجب يلزمه إمساك يومه أجمع ، ولا يلزمه مثل ذلك في التطوع فلذلك ما افترقا في محل النية ، وأما قوله إنه لما شق على الناس إناطة النية بالفعل ورخص لهم في التقدم ، فكذلك رخص لهم في التأخر فغلط بين ؛ لأن النية إذا جوز تقديمها على الفعل طرأ عملها على نية سابقة ، واعتقاد مقرر ، وإذا تقدم الفعل على النية ، ورد الفعل عاريا عنها ، فلذلك لم يصح تأخيرها ، فأما مالك فاستدل لصحة مذهبه بقوله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فنفى جنس الصيام لعدم النية ، فوجب أن يثبت جنسه بوجودها ، قال : ولأن شهر رمضان عبادة كالصلاة الواحدة ، وأيامه كالركعات فيها ثم كانت نية واحدة تجزيه لجميع الصلاة ، فكذلك يقتضي أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر ، والدلالة عليه هو أن المعنى الذي وجبت النية من أجله في اليوم الأول موجود في اليوم الثاني ، وما يليه إلى آخر الشهر ، وهو أنه صوم يوم واجب فوجب أن يكون من شرطه تقدم النية من ليلته كاليوم الأول ، ولأنها عبادة تؤدى وتقضى ؛ فوجب أن يكون عدد النية في أدائها كعدد النية في قضائها أصله الصلاة ؛ لأن الفوائت منها كالمؤقتات ، في إفراد كل صلاة منها بنية مجردة ، ولأنه انتقال من فطر إلى صوم ، فوجب أن يكون من شرطه نية تخصه كالقضاء ، ولأن كل ما وجب في الصوم قضاء وجب فيه أداء ، كالامتناع عن الأكل والشرب ، فأما ما استدل به من قوله : لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فدليلنا ؛ لأنه اعتبر تبييت جنس الصيام في جنس الليل فكل يوم من الصيام يبيت في جنس من الليل ، فوجب أن يبيت بما يبيت به الأول ، وأما قوله : إنه عبادة واحدة كالصلاة فغلط بل كل يوم منه عبادة ؛ لأن لا يتعدى فساده إلى غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية