الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما تعيين النية فواجب عند الشافعي ، وفي كيفية تعيينها وجهان :

أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ينوي أن يصوم يوما من رمضان ، وإن لم يقل فرضا كما ينوي صلاة الظهر ؛ لأن شهر رمضان لا يكون إلا فرضا ، كما أن صلاة الظهر لا تكون إلا فريضة .

والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق ينوي أن يصوم فرضا من رمضان ولذلك في الظهر ينوي أن يصلي فريضة الظهر لا يجزئه غير هذا ؛ لأن المراهق قد يصلي الظهر ، ويصوم رمضان ، ولا يكونا له فرضا فافتقرت نيته إلى تعيين الفريضة ، فأما إن نوى في شهر رمضان [ ص: 403 ] صوما مطلقا لم يجزه ، وكذلك لو نوى نذرا أو كفارة أو تطوعا لم يجزه عن رمضان ولا عما نواه ، وقال أبو حنيفة : إن كان مقيما انصرفت نيته إلى رمضان ، وإن كان مسافرا صح له ما نواه إلا أن يطلق النية ، أو ينوي صوم التطوع فتنصرف نيته إلى صوم رمضان ، وسوى أبو يوسف ومحمد حكم السفر والحضر ، وصرفا النية فيهما إلى صوم رمضان ، واستدل من نصر قول أبي حنيفة بأن قال : زمان رمضان مستحق للصوم والشيء إذا تعين زمان استحقاقه لم يفتقر إلى تعيين النية له كزمان الفطر ، قالوا : ولأن النية إنما يقصد بها في الصوم تمييز إمساك العبادة من إمساك العادة والتعيين إنما يقصد به تعيين الفرض من النفل ، ووجدنا صوم رمضان لا يتنوع فرضا ونفلا ، فوجب أن لا يفتقر إلى تعيين النية له قالوا : وقد قال الشافعي مثل ذلك في الحج فيمن أحرم بحجة تطوع وعليه حجة الإسلام أنها تنتقل إلى فرضه ، وكذلك في صوم رمضان إذا نواه عن نذر وكفارة ، أو تطوع انتقلت نيته إلى فرضه ، والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185 ] ومعلوم أن هذه الهاء كناية عن الشهر وعائدة إليه ، فيصير تقدير الكلام فلينو الصيام له ، ولو أراد جنس الصوم مطلقا ، لقال : فليصم فلما قيده بالهاء دل على وجوب تعيين النية له ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى فصريحه أن له ما ينويه ، ودليله أنه ليس له ما لم ينوه ، وهذا إذا نوى تطوعا لم ينو صوم رمضان ، فوجب أن لا يقع الاحتساب له بشيء لم ينوه ، وكان الظاهر يعطي حصول التطوع له ، غير أن دليل الإجماع أبطله ، ولأنها عبادة يفتقر قضاؤها إلى تعيين النية ، فوجب أن يفتقر أداؤها إلى تعيين النية ، أصله الصلاة وعكسه الحج ؛ لأن كل ما كان شرطا في الصوم قضاء كان شرطا فيه أداء كأصل النية ، ولأن البدل من شأنه أن يساوي حكم مبدله ، أو يكون أخف منه وأضعف ، فإما أن يكون آكد منه وأقوى فلا ، ثم كان تعيين النية في القضاء واجبا ، فبأن يكون واجبا في الأداء أولى ، وأما قولهم : إن زمان رمضان مستحق الصيام ، فلم يفتقر إلى تعيين النية ، قلنا فاسد بمن بقي عليه من وقت الصلاة قدر ما يفعلها فيه فقد استحق زمان فعلها ووجب عليه تعيين النية فيها ثم يبطل بالمسافر ، لأنهم يقولون لو نوى رمضان عن نذر أو كفارة أجزأ عما نواه ثم لا يلزمه تعيين النية فيه ، فعلم فساد هذا القول ، وأما قولهم : إن التعيين إنما يراد لما يتنوع فرضا ونفلا ، فيفسد أيضا بمن عليه صلاة فائتة فإنه يلزمه تعيين النية لها ، وإن لم تتنوع تلك الصلاة ، وأما ما ذكروه من الحج فغير صحيح ، لأننا مجمعون على الفرق بين الصيام والحج ؛ لأن عندنا أنه إذا أحرم بحجة التطوع انتقل إلى فرضه وأجزأه ، وعند أبي حنيفة : لا ينتقل عما نواه ، وعند أبي حنيفة : إذا نوى صيام التطوع انتقل إلى فرضه وأجزأه ، وعندنا أنه لا ينتقل إلى فرضه ، ولا يجزيه عما نواه وإذا وقع الفرق بينهما إجماعا لم يجزه اعتبار أحدهما [ ص: 404 ] بالآخر ، على أن المعنى في الحج أنه لما لم يفتقر قضاؤه إلى التعيين ، لم يفتقر أداؤه إلى التعيين ، ولما افتقر قضاء الصوم إلى التعيين افتقر أداؤه إلى التعيين .

التالي السابق


الخدمات العلمية