الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا استنشق رفق فإن استيقن أنه قد وصل إلى الرأس أو الجوف في المضمضة وهو عامد ذاكر لصومه أفطر ( وقال ) في كتاب ابن أبي ليلى لا يلزمه حتى يحدث ازدرادا فأما إن كان أراد المضمضة فسبقه لإدخال النفس وإخراجه فلا يعيد وهذا خطأ في معنى النسيان أو أخف منه ( قال المزني ) إذا كان الآكل لا يشك في الليل فيوافي الفجر مفطرا بإجماع وهو بالناسي أشبه ؛ لأن كليهما لا يعلم أنه صائم والسابق إلى جوفه الماء يعلم أنه صائم فإذا أفطر في الأشبه بالناسي كان الأبعد عندي أولى بالفطر " .

قال الماوردي : من أراد المضمضة والاستنشاق في صومه ، فالأولى له أن يرفق ولا يبالغ ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لقيطا بذلك ، فإن تمضمض واستنشق فوصل الماء إلى رأسه أو جوفه فله ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون ناسيا لصومه ، فلا شيء عليه وهو على صومه كالآكل ناسيا .

والثاني : أن يكون ذاكرا لصومه قاصدا لإيصال الماء إلى جوفه أو رأسه فهذا يفطر وعليه القضاء ، كالآكل عامدا ، والحال الثالثة : أن يكون ذاكرا لصومه غير قاصد إلى إيصال الماء إلى جوفه ، وإنما سبقه الماء وغلبه فهذا على ضربين :

[ ص: 458 ] أحدهما : أن يكون قد بالغ في الاستنشاق .

والثاني : لم يبالغ ، فإن بالغ فقد أفطر ولزمه القضاء ؛ لأن ذلك حادث عن سبب مكروه كالإنزال إذا حدث عن القبلة ، وكان بعض أصحابنا البغداديين لا يفرق بين المبالغة وغيرها ، وليس يصح لما ذكرنا ، فإن لم يبالغ ففيه قولان :

أحدهما : قد أفطر ولزمه القضاء ، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء ، واختاره المزني ووجهه ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم فقال : " أرأيت لو تمضمضت " فشبه القبلة بالمضمضة ، ثم كانت القبلة مع الإنزال تفطر ، فكذلك المضمضة مع الازدراد ، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الاستنشاق : " إلا أن تكون صائما فترفق " خوفا من إفطاره بوصول الماء إلى رأسه ، ولأن الأسباب الحادثة عن الأفعال تجري مجرى المباشرة لها في الحكم كالجنابة ، يجب القود فيها بالمباشرة والسراية فكذلك المضمضة والاستنشاق يجب أن يستوي حكم السبب فيهما والمباشرة ، ولما ذكره المزني من قياسه على الأكل شاكا في الفجر .

والقول الثاني : نص عليه في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، أنه على صومه ، وبه قال الحسن وأحمد وإسحاق وأبو ثور .

ووجه هذا القول هو أنه مغلوب على هذا الفعل فصار بمثابة من أكره على الأكل ، ولأنه وصل إلى جوفه من غير قصده ، فوجب أن لا يفطر ، أصله الذباب إذا طار إلى حلقه ، ولأن الفطر يقع تارة بما يصل إلى الجوف ، وتارة بما ينفصل عنه ، ثم تقرر أن ما ينفصل عنه بلا اختيار كالقيء والإنزال لا يفطر ، فكذلك ما وصل إليه من المضمضة بالاختيار ، وهذان القولان في صوم الفرض والنفل سواء ، وحكي عن الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وهو قول ابن عباس أنه إن توضأ لنافلة أفطر ، وإن توضأ لفريضة لم يفطر ؛ لأنه في الفريضة مضطر ، وفي النافلة مختار وهذا خطأ من وجهين :

أحدهما : أنه في الطهارتين غير مضطر إلى المضمضة والاستنشاق ، لأنهما سنتان في الطهارتين معا .

والثاني : أن حكم الفطر في الاضطرار والاختيار سواء ؛ لأنه لو أجهده الصوم ، فأكل خوف التلف أفطر ، ولو ابتدأ الأكل من غير خوف أفطر ، فدل على أن لا فرق بين الموضعين والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية