الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي اله عنه : " وإن اشتبهت الشهور على أسير فتحرى شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه " .

[ ص: 459 ] قال الماوردي : وصورتها في رجل من المسلمين حبسه المشركون في مطمورة فاشتبهت عليه الشهور وأشكل عليه شهر رمضان ، فعليه أن يتحرى فيه ويجتهد ثم يصوم على غالب ظنه كما يجتهد في القبلة ، فإذا فعل ذلك ثم أطلق لم تخل حاله من أربعة أقسام : أحدها : أن يبين له صواب اجتهاده وموافقته رمضان نفسه ، فإذا كان كذلك فقد أجزأه صومه ، وهذا قول الفقهاء كافة ، وقال الحسن بن صالح : عليه الإعادة ؛ لأن العبادات لا يصح أداؤها مع الشك في دخول وقتها كالصلاة ، وهذا خطأ ، والدلالة عليه مع إجماع السلف قبله قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185 ] وهذا قد شهد الشهر وصامه ولأنه أدى العبادة باجتهاد ، فوجب إذا بان له صواب اجتهاده أن يجزيه ، كما لو اجتهد في القبلة وصلى وبان له صواب الاجتهاد ، وما ذكره من دخول الوقت ، فليس بينهما فرق ؛ لأنه إذا غلب على ظنه دخول الوقت فصلى أجزأه .

والقسم الثاني : أن يبين له صيام ما بعد رمضان فهذا يجزئه ، ولا إعادة عليه إلا فيما لا يصح صيامه من العيدين وأيام التشريق ، وإنما أجزأه ؛ لأن القضاء قد استقر في ذمته بفوات الشهر ، ثم وافق صومه زمان القضاء فكذلك أجزأه فإن بان له صيام شوال لم يخل حال الشهرين أعني رمضان وشوالا من أربعة أقسام : إما أن يكونا تامين ، أو ناقصين ، أو يكون شهر رمضان تاما وشوال ناقصا ، أو يكون شهر رمضان ناقصا وشوال تاما ، فإن كانا تامين لزمه فضاء يوم الفطر وحده وكذلك لو كانا ناقصين ، فإذا قضاه فقد أدى فرضه وأجزأه ، وإن كان شهر رمضان تاما وشوال ناقصا لزمه قضاء يومين ، يوم الفطر ويوم النقصان ، وإن كان شهر رمضان ناقصا وشوال تاما ، فقد أجزأه عن فرضه ، ولا قضاء عليه ؛ لأن يوم الفطر من شوال بدل من اليوم الناقص من رمضان ، ولو بان له أنه صام نصف رمضان ونصف شوال أجزأه إلا يوم الفطر فعليه قضاؤه ، ويكون نصف صومه قضاء ونصفه أداء .

والقسم الثالث : أن يبين له صيام ما قبل رمضان فذلك ضربان :

أحدهما : أن يكون شهر رمضان باقيا لم يفت فعليه إعادة الصوم فيه لا يختلف لقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185 ] .

والضرب الثاني : أن يكون رمضان قد فات ومضى فمذهب الشافعي ، وما صرح به في كتبه وجوب الإعادة عليه ، وهو قول أكثر الفقهاء ، وقال في موضع من الأم ولو قال : إذا تأخر فبان له صيام ما قبله أجزأه ، كان مذهبا فمن أصحابنا من قال ليس هذا مذهبا له ، وإنما حكاه عن غيره ومذهبه وجوب الإعادة قولا واحدا ، ومنهم من قال في وجوب الإعادة قولان :

[ ص: 460 ] أحدهما : أن لا إعادة عليه لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة ، فوجب إذا أداها قبل الوقت أن يجزئه ، كالحاج إذا أخطأ الوقت بعرفة فوقفوا يوم التروية .

والقول الثاني : وهو الصحيح عليه الإعادة ؛ لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء ، فوجب أن يلزمه القضاء ، أصله إذا اجتهد في الإناءين ثم بان نجاسة ما استعمله ، ولأنها عبادة على البدن يقدر على أدائها بيقين ، فوجب إذا بان له الأداء قبل الوقت ، أن تلزمه الإعادة كالصلاة ، قال فأما الحاج فيستحيل وقوفهم بعرفة يوم التروية ، فلم يصح قياس الصوم عليه فلو بان له صيام نصف شعبان ونصف رمضان فما صادف من رمضان يجزيه ، وفيما صادف من شعبان قولان :

والقسم الرابع : أن لا يبين له زمان صيامه هل وافق رمضان أو ما قبله أو ما بعده فهذا يجزيه صومه ولا إعادة ؛ لأن الظاهر من الاجتهاد صحة الأداء ، ما لم يعلم يقين الخطأ والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية