الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا بأس أن يشترط في الاعتكاف الذي أوجبه بأن يقول إن عرض لي عارض خرجت " .

قال الماوردي : وهذا صحيح .

[ ص: 489 ] وجملة الاعتكاف ضربان : واجب وتطوع .

فأما التطوع فلا يفتقر إلى شرط الخيار إليه في المقام على اعتكافه والخروج منه ، وأما الواجب فهو النذر وهو على ضربين :

مطلق بغير شرط .

ومقيد بشرط ، فأما المطلق بغير شرط فهو ممنوع فيه من الخروج إلا لحاجة الإنسان فإن خرج لغيرها بطل اعتكافه على ما سنذكره ، وأما المقيد بشرط فهو على ضربين : أحدهما : أن يشترط قطع اعتكافه .

والثاني : أن يشترط الخروج منه فإن اشترط قطع اعتكافه ، فصورته أن يقول : لله علي اعتكاف عشرة أيام متتابعات إلا أن يعرض لي كذا وكذا ، فأقطع فهذا نذر صحيح ، وشرط جائز ، فإذا عرض له ما شرط وخرج لأجله لم يلزمه العود إلى اعتكافه ، وتكون المدة التي اعتكفها هي القدر الذي نذره ؛ لأن الاعتكاف يتبعض حكمه ويصح في قليل الزمان وكثيره ، فإذا شرط في نذره قطع اعتكافه بحدوث عارض ، فكان نذره إنما انعقد على هذه معلقة ويكون ما بقي من العشر خارجا عن النذر ، وإن اشترط الخروج من اعتكافه ، فصورته أن يقول : لله علي اعتكاف عشرة أيام متتابعات إلا أن يعرض لي كذا وكذا ، فأخرج فهذا كالأول في صحة نذره وجواز اشتراطه على ما نفصله ، وإنما يفترقان من وجه وهو أنه إذا شرط القطع لم يلزمه العود إليه ، وإذا شرط الخروج لزمه العود إليه ؛ لأن قطع الاعتكاف يوجب رفعه ، والخروج منه لا يوجب رفعه وإنما يقتضي جواز خروجه منه كما يخرج لحاجة نفسه ، فإن قيل : فهلا جاز مثل هذا الشرط في الصلاة والصيام والحج ، قيل : هما شرطان :

أحدهما : قطع الاعتكاف .

والثاني : الخروج منه ، فأما شرط القطع فيجوز مثله في الصلاة والصيام ، وفي جواز مثله في الحج قولان ، وهو أن يقول لله علي صلاة ركعتين أو صيام يوم أو حج البيت إلا أن يعرض لي كذا فأقطع ، فإن عرض له ذلك الشيء الذي شرطه جاز له قطع صومه وصلاته ، وهل يجوز له قطع حجه والإحلال منه قبل كماله أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : يجوز أيضا .

والثاني : لا يجوز .

والفرق بينه وبين سائر العبادات هو أن الحج يلزم المضي فيه بالفعل ، فإذا سقط موجب النذر بالاستثناء والشرط عاد إلى موجب الفعل فلزمه المضي فيه ، وما يسن في [ ص: 490 ] الحج والعبادات كلها ، إذا سقط موجب النذر فيها بالاستثناء والشرط ، وعادت إلى موجب الفعل لم يلزمه المضي فيها ، فوضح الفرق بينهما .

وأما شرط الخروج فلا يجوز مثله في الصلاة والصيام والحج ، ويجوز في الاعتكاف والفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن الخروج لا ينافي الاعتكاف لأنه قد يخرج لحاجة نفسه ويعود إلى اعتكافه ، وينافي الصلاة والصيام والحج ؛ لأنه لا يجوز له الخروج منه والعود إليه لحاجة ولا لغيرها .

والثاني : أن الاعتكاف لا يتقدر بزمان ولا يرتبط بعضه ببعض والصلاة قد ارتبط بعضها ببعض وتقدرت بعمل لا يجوز الاقتصار على بعضه ، وكذلك الصيام مقدر بزمان لا يصح إيقاعه في بعضه ، فلذلك ما افترق حكم الشرط في ذلك ، فإذا تقرر جواز اشتراط الخروج من الاعتكاف دون ما سواه من العبادات ، لم يخل حال ما اشترطه وخرج له من أحد أمرين : إما أن يكون محظورا ، أو مباحا فإن كان مباحا كاستقبال قادم ، أو اقتضاء غريم ولقاء سلطان ، أو كان مستحبا كعيادة مريض وتشييع جنازة ، أو كان واجبا كحضور الجمعة جاز ، ولزمه العود إلى اعتكافه والبناء عليه ، وتكون مدة خروجه مستثناة من نذره بالشرط كما أن أوقات الحاجة مستثناة بالشرع ، وإن كان محظورا فعلى ضربين :

أحدهما : أنه ينافي الاعتكاف كالوطء فإذا خرج من اعتكافه ووطئ بطل اعتكافه ، ولزمه استئنافه ولأن الوطء يمنع من البناء ، وينقض حكم ما مضى فصار بمثابة الوطء في صومه .

والضرب الثاني : أنه لا ينافي الاعتكاف ولكنه ينقضه كالسرقة وقتل النفس المحرمة ، ففي بطلان اعتكافه وجهان :

أحدهما : قد بطل ؛ لأن اشتراط المعصية كلا اشتراط فصار بمثابة من خرج بغير شرط . والوجه الثاني : لا يبطل وله البناء عليه ؛ لأن نذره إنما ينعقد على ما سوى مدة الشرط ، فلم يكن نذر المدة مقصودة بالعمل والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية