الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : قال الشافعي .

والقسم الثاني : أن يكون مستطيعا ببدنه قادرا على المشي عادما للزاد والراحلة ، فهو على ضربين ؛ أحدهما أن يكون من أهل الحرم ، وحاضريه الذين بينهم وبين الحرم دون اليوم والليلة ، فإن وجد الزاد وعدم الراحلة ، وجب عليه الحج ، لأنه لا مشقة تلحقه في مشي هذه المسافة ، فصار كمن سمع أذان الجمعة يلزمه المشي إليها ، وإن عدم الزاد والراحلة جميعا ، فله حالان :

أحدهما : أن يكون ذا صنعة يكتسب بها قدر كفايته ، وكفاية عياله ، ويفضل له مؤونة حجه ، فعليه الحج لأنه يتعلق بما فضل عن الكفاية ، وقد فضل .

والحالة الثانية : أن لا يكتسب بصنعته قدر كفايته ، ومتى اشتغل بالحج أضر بعيلته فلا حج عليه ، ومقامه على عياله أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم كفى المرء إثما أن يضيع من يقوت . والضرب الثاني : أن يكون بعيد الدار ، بينه وبين الحرم مسافة يوم وليلة وأكثر فلا حج عليه ، وهو في الصحابة قول عبد الله بن العباس وعمر بن الخطاب ، وفي التابعين قول سعيد بن جبير والحسن البصري ، وفي الفقهاء قول أبي حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق ، وقال مالك : عليه الحج إذا كان مكتسبا إما بصنعة أو مسألة ونحوه ، عن عكرمة وابن الزبير تعلقا بقوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا [ الحج : 27 ] ، وقرئ ( رجالا ) مشددا أي مشاة ، وله يأتوك معناه ليأتوك رجالا ، فأخبر بإيجاب الحج على المشاة ، والركبان وبقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] وذلك على عموم الظاهر في الاستطاعة ، قالوا : ولأنه فرض على الأبدان يجب على [ ص: 8 ] الأعيان ، فوجب أن لا يكون من شرط وجوبه المال كالصلاة والصيام ، ودليلنا قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] وفيها دليلان :

أحدهما : من جهة الاستنباط .

والثاني : من جهة البيان ، فأما الاستنباط فهو أن الأمر بالعبادة إذا ورد مطلقا كانت القدرة على أدائها شرطا في وجوبها ، فلما ضمنها الله تعالى بالاستطاعة قد علمنا أن وجوبها على غير مستطيع لا يجوز دل على أن انضمام ذلك لفائدة ، وهو الزاد والراحلة ، وأما البيان ، فهو ما روي عن ابن عمر أنه قال : لما نزل قول الله تعالى : ولله على الناس حج البيت ، [ آل عمران : 97 ] ، قام رجل فقال : ما السبيل يا رسول الله ؟ فقال : زاد وراحلة فصار هذا بيانا منه لجملة الاستطاعة ، فإن قيل : إنما سأل الرجل عن استطاعة نفسه قيل : لفظة السؤال تمنع من هذا التأويل ، لأنه قال : ما الاستطاعة ؟ فسأل بالألف واللام ، فذلك إشارة إلى معهود أو مذكور ، والمذكور ما في الآية ، والمعهود استطاعة كل الناس فسقط أن يكون المراد بالسؤال استطاعة السائل ، وروي عن عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " السبيل الزاد والراحلة " فكان هذا بيانا لحكم الآية من غير سؤال ، وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من وجد زادا وراحلة وأمكنه الحج فلم يفعل فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا فلما علق الوعيد بالزاد والراحلة ، علم أنه شرط في الوجوب ، وروى محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : ما يوجب الحج . فقال : الزاد والراحلة ، وهذا نص صريح ، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة ، فوجب أن يكون الزاد والراحلة شرطا في وجوبها كالجهاد ، فأما الجواب عن قوله : يأتوك رجالا [ الحج : 97 ] ، فقراءة شاذة غير مشهورة ، وقراءة الجماعة ( رجالا ) بالتخفيف على أنه يحمل على أهل مكة ، وأما قياسهم على الصلاة ، فالمعنى فيه أنه لا يتعلق بقطع مسافة بعيدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية