الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 24 ] باب بيان وقت فرض الحج وكونه على التراخي

قال الشافعي . رضي الله عنه : أنزلت فريضة الحج ، بعد الهجرة ؟ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج وتخلف صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من تبوك لا محاربا ولا مشغولا بشيء وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان كمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرض ولا ترك المتخلفون عنه ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد فرض الحج إلا حجة الإسلام وهي حجة الوداع وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة تسع سنين ولم يحج ثم حج ( قال الشافعي ) فوقت الحج ما بين أن يجب عليه إلى أن يموت .

قال الماوردي : وهذا صحيح .

كل من لزمه فرض الحج فالأولى به تقديمه ويجوز له تأخيره ، وفعله متى شاء وبه قال من الصحابة جابر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم ومن التابعين عطاء وطاوس ، ومن الفقهاء الأوزاعي والثوري وقال مالك والمزني ، وأبو يوسف فرض الحج على الفور لا يجوز تأخيره لمن قدر عليه ، وليس لأبى حنيفة فيه نص ، ومن أصحابه من قال : هو قياس مذهبه استدلالا برواية سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تعجلوا الحج فإن أحدكم ما يدري ما يعرض له ، وبقوله صلى الله عليه وسلم عجلوا الحج قبل أن يمرض الصحيح ويضل الضال وبقوله صلى الله عليه وسلم حجوا قبل أن لا تحجوا فأمر بالمبادرة ، وبرواية علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من وجد زادا وراحلة تبلغه البيت فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ولأنها عبادة لها وقت معلوم ، لا تفعل في السنة إلا مرة ، فوجب أن تكون على الفور كالصيام قال : ولأنه لو مات قبل أداء الحج مات آثما ، فلولا أنه على الفور لم يأثم بتأخيره ودليلنا هو أن فريضة الحج نزلت سنة ست من الهجرة ، وتخلف [ ص: 25 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأزواجه وأصحابه قادرين إلى سنة عشر ثم حجوا ، فإن قيل فريضة الحج نزلت سنة عشر لأن قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] ، نزلت سنة تسع ، وقيل سنة عشر فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير قيل : الدلالة على أن فريضة الحج نزلت سنة ست أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم فيها بالعمرة ، وهي عام الحديبية فأحصر فأنزل الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ البقرة : 196 ] ، فإن قيل : فإنما أمرهم الله بإتمام الحج ، ولم يأمرهم أن يبتدوا حجا قيل : فقد يراد بالإتمام البناء تارة والابتداء تارة على أنهم في عام الحديبية كانوا قد أحرموا بعمرة ، ولا يجوز أن يؤمر بإتمام العبادة من لم يدخل فيها فعلم أنه أراد إنشاءها ، وابتداءها .

وروي أن ضمام بن ثعلبة ، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة خمس من الهجرة ، وسأله عن أشياء فكان مما سأله أن قال : الله أمرك أن تحج هذا البيت ؟ قال : نعم فدل ما ذكرناه على أن فريضة الحج نزلت قبل سنة عشر ، ولا ينكر نزول قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] ، سنة تسع ، أو عشر على على وجه تأكيد الوجوب ، فإن قيل : فرض الحج إنما استقر سنة عشر بعد أن تقدم وجوبه سنة ست بدليل ما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجه سنة عشر : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . قيل : في مراده بهذا القول تأويلان :

أحدهما : أنه أراد حصول الحج في ذي الحجة ، لأنهم ربما كانوا قدموه إلى ذي القعدة ، وربما أخروه إلى المحرم .

والتأويل الثاني : أنه أراد تحريم القتال في الأشهر الحرم عاد تحريمه إلى ما كان عليه ، بعد أن كان مباحا ، فإن قيل : إنما أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج إلى سنة عشر ، لاشتغاله بالحرب ، وخوفه على المسلمين من المشركين ، قيل : ما نقل إلينا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدفع هذا التأويل ، وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحصر عام الحديبية في سنة ست فأحل ثم صالح أهل مكة ، على أن يقضي العمرة سنة سبع ويقيم بمكة ثلاثا فقضاها سنة تسع ، ولهذا سميت عمرة القضية ثم فتح مكة سنة ثمان ، فصارت دار الإسلام ، وأمر عتاب بن أسيد فحج فيها بالناس : ثم بعث أبا بكر سنة تسع فحج بالناس وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير مشغول بحرب ولا خايف من عدو ، ثم أنفذ علي بن أبي طالب بعد نفوذ أبي بكر ، يأمره بقراءة سورة [ ص: 26 ] ( براءة ) ، فإن كان معذورا فلم أنفذه ؟ وإن كان غير معذور فلم أخره ؟ ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنوعا من الحج ، لكان ممنوعا من العمرة سنة سبع ، ولو كان خائفا على أصحابه لما أنفذهم مع أبي بكر سنة تسع ، فسقط ما قالوه ، فإن قيل : إنما تأخر ليتكامل المسلمون فيبين الحج لجميعهم ، وهذا معنى يختص به دون غيره ، قيل : هذا ظن ، قد يجوز أن يكون تأخر للأمرين جميعا ، ليبين جواز التأخير ، وليبين لهم نسكهم ، ويؤيد ما ذكرناه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أراد الحج فليتعجل فعلته بالإرادة ، ولأنه لو أخر الحج عن وقت الإمكان ، ثم فعله فيما بعد لم يسم قاضيا ، ولا نسب إلى التفريط فعلم أن وقته موسع ، وأن تأخيره جايز ألا ترى أن الصوم لما كان وقته مضيقا سمي من أخر فعله قاضيا ، وإن شئت حررت هذا المعنى عليه فقلت : لأنه أتي بالحج في وقت لم يزل عنه اسم الأداء ، فوجب أن يكون وقتا له أصله إذا حج عقيب الإمكان ، ولأنها عبادة وسع وقت افتتاحها فوجب أن يوسع وقت أدائها كالصلاة ، فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : عجلوا الحج قبل أن يمرض الصحيح قيل : قد بين المعنى الذي لأجله أمر بالتعجيل ، وهو الاحتياط خوف المرض ، وكذا الجواب عن قوله : حجوا قبل أن لا تحجوا فأما حديث علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فإنما ورد فيمن مات قبل فعله ، ونحن نأمر بفعله قبل الموت ، فأما قياسهم على الصوم ، فالمعنى فيه : أنه يسمى قاضيا بتأخيره .

وأما قولهم : إنه لو مات قبل أدائه مات آثما عاصيا قلنا : من أصحابنا من نسبه إلى المعصية ، كما ينسب تارك الصلاة عن أول وقتها حتى يعرض له عجز أو موت إلى التفريط لا إلى المعصية ، ومن أصحابنا من نسبه إلى المعصية وقال : إنما أبيح له التأخير ما أمن الفوات ، كما أبيح للرجل ضرب امرأته على شروط السلامة ، فإن أدى إلى التلف علم أنه خرج عن حد الإباحة ، وإذا قلنا : إنه مفرط عاص ففيه وجهان :

أحدهما : مفرط من أول وقت إمكانه .

والثاني : أنه مفرط من آخر وقت إمكانه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية