الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 33 ] باب بيان أن العمرة واجبة كالحج

قال الشافعي رضي الله عنه : " قال الله جل ذكره وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] ، فقرن العمرة به وأشبه بظاهر القرآن أن تكون العمرة واجبة واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج ومع ذلك قول ابن عباس : والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله وأتموا الحج والعمرة لله ، وعن عطاء قال ليس أحد من خلق الله إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان ( قال ) وقال غيره من مكيينا : وسن رسول صلى الله عليه وسلم في قران العمرة مع الحج هديا ولو كانت نافلة أشبه أن لا تقرن مع الحج وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وروي أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن العمرة هي الحج الأصغر " .

قال الماوردي : أما العمرة في كلامهم ففيها قولان :

أحدهما : أنها القصد ، وكل قاصد لشيء فهو معتمر قال العجاج :


لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزا بعيدا من بعيد وصبر

والقول الثاني : هي الزيارة وقال أعشى باهلة :


وجاشت النفس لما جاء فلهم     وراكب جاء من تثليث معتمرا

يعني : زائرا هكذا قال الأصمعي ، لكن العمرة في الشرع تشتمل على إحرام ، وطواف ، وسعي ، وحلاق .

واختلف الناس في وجوبها فالمشهور من مذهب الشافعي والمعول عليه أنها واجبة كالحج ، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله .

ومن التابعين سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب .

ومن الفقهاء سفيان الثوري وأحمد وإسحاق .

[ ص: 34 ] وقال في القديم ، وأحكام القرآن ما يدل على أنها سنة مؤكدة .

وبه قال من الصحابة عبد الله بن مسعود .

ومن التابعين عامر الشعبي .

ومن الفقهاء مالك ، وأبو حنيفة ، فمن أصحابنا من خرجه قولا ثانيا ، ومن أصحابنا من قال إنما ذكره حكاية عن مذهب غيره .

واستدل من قال إنها سنة بما روى الحجاج بن أرطأة عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة . فقال لا ، وأن تعتمر خير لك وبما روى معاوية بن إسحاق عن أبي صالح الحنفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحج جهاد والعمرة تطوع ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة .

قالوا : ولأنه نسك يفعل على وجه التتبع ليس له وقت معين كالصلاة فوجب أن لا يكون واجبا كطواف اللزوم ، ولأن كل عبادة كانت واجبة بأصل الشرع كان لها وقت معين كالصلاة والصيام والحج ، فلما لم يكن للعمرة وقت معين علم أنها غير واجبة بأصل الشرع كالاعتكاف ، قالوا : ولأن كل عبادة اختصت بزمان كان جنسها نفل يتكرر ، في غير وقتها كالصلاة والصيام ، فلما لم يكن من جنس الحج نفل يتكرر في غير وقته ، دل على أن العمرة نفل الحج لتكررها في غير وقته .

والدلالة على وجوبها قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] وفيه قراءتان :

إحداهما : قرأ بها ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ، قال تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] ، والقراءة الشاذة إذا صحت جرت مجرى خبر الواحد في وجوب العمل به .

والثانية : قراءة الجماعة وأتموا الحج والعمرة لله البقرة : 196 ] ، والدلالة فيها من وجهين :

[ ص: 35 ] أحدهما : أن إتمامهما أن يفعلا على التمام كما قال تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [ البقرة : 124 ] ، أي فعلهن تامات وروي عن علي وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أنه أمر بالإتمام ، وحقيقة البناء على ما تقدم ، فاقتضى أن يكون إتمام العمرة واجبا وإتمامها لا يتوصل إليه إلا بابتداء الدخول فيها ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ، كاستقاء الماء للطهارة ، ويدل عليه من السنة ما روى يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله ما الإسلام فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت ، وتعتمر وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء قال : فإذا فعلت هذا ، فأنا مسلم قال : نعم . قال : صدقت . فجعل صلى الله عليه وسلم العمرة من الإسلام ، وقرنها بالواجبات . وروي عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : يا رسول الله أعلى النساء جهاد ، فقال عليهن جهاد لا قتال فيه ؛ الحج والعمرة . وروي عن ابن سيرين عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت ، ولأنها عبادة تفتقر إلى الطواف ، فوجب أن يكون من جنسها ما هو واجب بأصل الشرع كالحج ، ولأنها عبادة تجب في إفسادها الكفارة فوجب أن تتنوع فرضا ونفلا كالصوم ، والحج .

فأما الجواب عن حديث الحجاج بن أرطأة فلا يجوز الاحتجاج به ، لأنه ضعيف روي عمن سمع وعمن لم يسمع ، على أنه إن صح حمل على سائل سأل عن عمرة ثانية ، وأما قوله : الحج جهاد والعمرة تطوع فحديث مرسل لأن أبا صالح الحنفي تابعي على أنه شبه الحج بالجهاد لعظم مشقته وثوابه ، والعمرة بالتطوع لقلة مشقتها ، وإن ثواب الحج أكثر من ثوابها ، وكذا الجواب عما روي ، أنه قال : من حج فكأنما صلى الفريضة ومن اعتمر فكأنما صلى النافلة فجعل العمرة كالنافلة في قلة عملها ، وثوابها ، والحج ، كالفريضة في كثرة عمله وثوابه ، وأما قوله : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فليس المراد به سقوط وجوبها بوجوب الحج ، وإنما أراد أن العمرة دخلت في وقت الحج ، وأشهره ، لأن القوم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ، أو يكون المراد به أن أفعال العمرة ، دخلت في أفعال الحج في القران بين الحج والعمرة ، وأما قياسهم على الطواف فليس طواف القدوم ونسك بذاته ، وإنما هو من جملة نسك كما أن الركوع والسجود ليس بصلاة ، وإنما هو من [ ص: 36 ] جملة الصلاة وقولهم يفعل على وجه التبع فغير مسلم ، ثم المعنى في طواف القدوم جواز الخروج منه قبل تمامه ، وإن الكفارة لا تجب في إفساده ، وأما قولهم أن لما لم يكن لها وقت معين ، دل على أنها غير واجبة ، فيبطل على أصلهم بصلاة الوتر ثم بالزكوات على أنه قياس العكس ، ولا نقول به ، وأما قولهم إنه لما لم يكن للحج نفل من جنسه يتكرر في غير وقته ، اقتضى أن تكون العمرة نفله والجواب : أن يقال إنما كان للصلاة نفل يتكرر في وقتها لأن فرضها يفعل في وقتها ، وغير وقتها ، وغير وقت الحج لما لم يكن وقتا لفرض الحج ، لم يكن للحج نفل يفعل في غير وقته ، فسقط ما قالوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية