الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا فرغ المتمتع من عمرته وأحل منها ، فهو حلال كغيره ، وله أن يتطيب ويستمتع بالنساء ، ما لم يحرم بالحج ، سواء ساق هديا أو لم يسق .

[ ص: 65 ] وقال أبو حنيفة : إن لم يسق هديا جاز ، وإن ساق هديا لم يجز احتجاجا مما روي عن حفصة : أنها قالت : " يا رسول الله ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل من عمرتك قال : " لأني لبدت رأسي فقلدت الهدي ، ولا أحل حتى انحر " فأخبر أن سوق الهدي منعه من التحلل من عمرته ، فدل على أنه " مانع له ولغيره . وروي عن عائشة أنها قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأحرمنا بعمرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كان معه هدي فليهل بالحج ، ثم لا يحل حتى يفرغ منهما جميعا .

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه رواية مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فمنا من أهل بالحج ، ومنا من أهل بالعمرة ، ومنا من أهل بالحج والعمرة ، فأما الذين أهلوا بالعمرة ، فطافوا وسعوا بين الصفا والمروة وأحلوا ، فأخبرت أن من أهل بالعمرة أحل منها ، وقد كان منهم من ساق هديا فدل على أن سوق الهدي غير مانع من الإحلال ، ولأنه متمتع أكمل أفعال عمرته ، فوجب أن يجوز له التحلل منها كمن لم يسق الهدي ، ولأن كل ما كان وقتا للإحلال لمن لا هدي معه ، كان وقتا لإحلال من معه الهدي ، كالمفرد والقارن ، يحل إذا كان معه هدي ، في الوقت الذي يحل إذا لم يكن معه هدي ، كذلك المتمتع ، ولأنه سمي متمتعا لتمتعه بين الإحرامين ، فلم يجز أن يمنع منه ، لأن الاسم يزول عنه .

فأما الجواب عن حديث حفصة رضي الله عنها فمن وجهين :

أحدهما : أنهم لا يثبتونه ، لأنه يدل على أنه كان متمتعا ، وهم يرون أنه كان قارنا ، ونحن نرى أنه كان مفردا ، فلم يصح لنا ولهم الاحتجاج به ، لاعتقادنا خلافه .

والجواب الثاني : تسليم الحديث لهم ، وترك منعهم منه ، وتأوله على ما يصح فيقول :

إن معنى قول حفصة رضي الله عنها : ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم ولم تحل من عمرتك ، أي ما بال الناس حلوا من حجهم بعمل عمرتهم ولم تحل أنت من حجك بعمل عمرة ، لا أنهم كانوا أحرموا معه ابتداء بعمرة أحلوا منها دونه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أحرم هو وأصحابه بالحج على ما روينا من قبل ، ثم أمر من لا هدي معه أن يفسخ حجه إلى عمرة ، ومن معه هدي أن يقيم على حجه ، وقيل : بل كان إحرامه وإحرامهم موقوفا ، فأمر من لا هدي معه أن يصرف إحرامه إلى عمرة ، ومن معه هدي أن يصرفه إلى الحج ، فلما رأت حفصة أنهم قد أحلوا من إحرامهم بعمل عمرة ، وهو باق على إحرامه لم يتحلل بعمل عمرة ، سألته عن ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : أني لبدت رأسي وقلدت الهدي فلا أحل حتى أنحر فأخبرها عن السبب الذي منعه من التحلل بعمل عمرة ، فلم يكن فيه لأبي حنيفة دلالة .

[ ص: 66 ] وأما حديث عائشة رضي الله عنها فالمروي عنها خلافه ، على أنه لا حجة فيه أيضا : لأن قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن كان معه هدي فليهل بالحج " . إنما هو أمر منه عليه السلام لمن كان أحرم بالعمرة أن يهل بالحج فيصير قارنا ، ثم أمره أن لا يحل حتى يفرغ منها جميعا ، وكذا نقول في القارن : إنه لا يحل حتى يفرغ من النسكين جميعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية