الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا ينكح المحرم ولا ينكح : لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال فإن نكح أو أنكح فالنكاح فاسد " .

قال الماوردي : اختلف الناس في نكاح المحرم وإنكاحه ، فمذهب الشافعي أن نكاحه وإنكاحه باطل .

وقال أبو حنيفة وصاحباه : جائز استدلالا ، بعموم قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] ، وقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] ، وبراوية عكرمة عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم . ولأنه قول يستباح به البضع ، فوجب أن لا يمنع منه الإحرام كالرجعة ، ولأنه عقد يملك به البضع ، فوجب أن لا يمنع من الإحرام ، كشراء الإماء ولأنه لو منع الإحرام من ابتداء النكاح ، منع من استدامته كاللباس ، فلما جاز استدامته ، جاز ابتداؤه . ولأن ما منع منه الإحرام ، تعلقت به الفدية ، كسائر النواهي ، فلما لم تجب الفدية فيه لم يمنع الإحرام منه .

والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أن عبد الله أراد تزويج ابنته طلحة بنت بن جبير ، فبعث إلى أبان بن عثمان وكان أمير الحاج وكانا محرمين فأنكر ذلك عليه أبان وقال : سمعت عثمان بن عفان يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا ينكح المحرم ولا ينكح " .

فإن قيل : نبيه بن وهب ضعيف قيل : قد روى عنه مالك بن أنس ، وأيوب السختياني ، وحسبك بهما ، ثم روى عنه أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، من بعدهما على أن القصة مشهورة ، قد حكاها عن أبان سعيد بن المسيب وغيره .

[ ص: 124 ] فإن قيل : يحمل نهيه على الوطء دون العقد .

قيل : غير صحيح من وجهين :

أحدهما : أن أبان بن عثمان ومن حضره قد عقلوا معناه ، وأن المراد به العقد .

والثاني : أنه قال : " لا ينكح ولا ينكح " فلم يصح حمله على الوطء : لأن الإنسان لا يوطئ غيره ، على أنه لو جاز ما قالوا ، لكان حمله على العقد أولى من وجهين :

أحدهما : أنه أعم لأنه يتناول الأمرين .

الثاني : أنه يعلم به حكم فيستفاد ، لأن تحريم الوطء مستفاد من قوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث [ البقرة : 197 ] ، وروى عكرمة سألت ابن عمر امرأة تتزوج وهي خارجة من مكة : يعني أنها أحرمت وخرجت إلى منى فقال : " لا يعقل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وهنا نص في العقد ، وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يتزوج المحرم ولا يزوج . وهذا نص أيضا ، ولأنه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم ، وروي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عمر ، وزيد بن زياد ، وليس يعرف لهم من الصحابة مخالف ، ولأنه معنى يثبت به الفراش ، فوجب أن يمنع منه الإحرام ، كالوطء ، ولأنه معنى يثبت به تحريم المصاهرة ، فوجب أن يمنع منه الإحرام ، كالوطء ، ولا ينتقض بالرضاع ، ولأنه يثبت تحريم النسب دون المصاهرة ، ولأن الإحرام معنى يمنع من الوطء ودواعيه ، فوجب أن يمنع من النكاح ، كالعدة ، ولأن النكاح من دواعي الجماع ، فوجب أن يكون الإحرام مانعا منه ، كالطيب ، ولأنه عقد نكاح على من لا يستبيح الاستمتاع بها مع القدرة ، فوجب أن يكون باطلا كذات المحرم والمرتد .

فأما استدلالهم بعموم الآيتين ، فمخصوص بما ذكرنا ، وأما استدلالهم بحديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم " ففيه جوابان : أحدهما : وهو قول أبي الطيب بن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بجواز النكاح في الإحرام لما كان مخصوصا بغيره في المناكح .

والجواب الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في النكاح في الإحرام سواء ، لكن خبر ابن عباس واه : لأنه من طريق عكرمة وهو ضعيف ، وقد روي من ثلاث طرق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو حلال .

[ ص: 125 ] فأحدهما : ما رواه أيوب عن ميمون بن مهران قال : كتب إلى عمر بن عبد العزيز وميمون يومئذ على الجزيرة إذ سأل يزيد بن الأصم ، وكان ابن أخت ميمونة كيف تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث ، فقال تزوجها حلالا وبنى بها بسرف حلالا وماتت بسرف فهو ذاك قبرها بسرف تحت السقيفة أو تحت العقبة .

والطريق الثاني : ما رواه سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أبا رافع ورجلا من الأنصار ، وقيل جعفر بن أبي طالب وهو بالمدينة إلى ميمونة فتزوجها ، وكانت جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب ، وهو زوج أختها أم الفضل ، فزوجها ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا في ذي القعدة سنة سبع عشرة العصيبة ، فأخذها بمكة وبنى بها بسرف .

والطريق الثالث : ما روى ميمون بن مهران قال كنت جالسا إلى عطاء بن أبي رباح ، فسمعته يخبر رجلا أن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم خطب وهو حرام وملكها وهو حرام . فلما تصدع من عنده وحوله ، حدثه حديث يزيد بن الأصم قال : فانطلق بنا إلى صفية بنت شيبة ، فانطلقنا حتى دخلنا عليها فإذا عجوز كبير ، فسألها عطاء عن ذلك فقالت : خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال أو نكحها وهو حلال ودخل بها وهو حلال . فكانت هذه الأحاديث أولى من حديث ابن عباس لأن يزيد بن الأصم ابن أختها ، وسليمان بن يسار عتيقها ، وابن عباس إذ ذاك طفل لا يضبط ما شاهد ، ولا يعي ما سمع ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولابن عباس تسع سنين ، وكان تزويج ميمونة قبل موته بثلاث سنين ، على أن ابن عباس كان يرى أن من قل هديه أو أشعر صار محرما فيجوز أن تكون بروايته أنه نكحها وهو محرم بعد تقليد هديه وإشعاره ، وقيل عقد الإحرام على نفسه .

وأما قياسهم على الرجعة ، فلا يصح على أصلهم ، لأنهم قالوا : استباحة بضع ، والرجعة غير محرمة عندهم على أن الرجعة أخف حالا من ابتداء العقد : لأنه استصلاح خلل في العقد ، ألا تراه لا يفتقر إلى ولي ولا إلى إيجاب وقبول وأما قياسهم على شراء الإماء ، فليس المقصود منه ، الاستمتاع ، وإنما المقصود منه التجارة وطلب الربح أو الاستخدام فلذلك جاز شراء من لا يحل له من أخواته وعماته ، فلذلك لم يمنع منه الإحرام : لأنه لا يمنع من مقصوده وعقد النكاح مقصوده الاستمتاع فمنع منه الإحرام لأنه يمنع من مقصوده ، وأما قولهم : إن ما منع الإحرام من ابتدائه منع من استدامته ، فباطل بالطيب : لأن الإحرام يمنع من ابتدائه ولا يمنع عندنا وعند أبي حنيفة من استدامته .

وأما قولهم : إن ما منع منه الإحرام تعلق به الفدية ، فباطل بالصيد : لأنه يمنع من قتله [ ص: 126 ] ومن تملكه ولو تملكه لم يفتد على أن الفدية إنما تجب في الحج ، إما بإتلاف أو ترفيه ، والنكاح ليس بثابت ، فيحصل فيه إتلاف أو ترفيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية