الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : فإذا أتى المزدلفة جمع مع الإمام المغرب والعشاء بإقامتين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بها ، ولم يناد في واحدة منهما إلا بإقامة ، ولا يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما " .

قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا أتى المزدلفة نزل بها ، وحدود مزدلفة من حيث يقضي من مأزمين عرفة ، وليس المأزمين منها إلى أن يأتي إلى قرب محسر ، وليس القرن منها ، وهكذا يمينا وشمالا من تلك المواطن والقوابل والظواهر والشعاب والسحاء والوادي كله ، وفي تسميتها مزدلفة قولان :

أحدهما : إنهم يقربون فيها من منى ، والازدلاف التقريب ، ومنه قوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين [ الشعراء : 95 ] ، أي قربت .

والثاني : إن الناس يجتمعون بها ، والاجتماع الازدلاف ، ومنه قوله تعالى : وأزلفنا ثم الآخرين [ الشعراء : 64 ] ، أي جمعناهم ؛ ولذلك قيل لمزدلفة جمع ، فإذا نزل بمزدلفة جمع [ ص: 176 ] بين المغرب والعشاء ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة المغرب حتى جمعها مع عشاء الآخرةبمزدلفة كما قدم العصر بعرفة ، حين صلاها مع الظهر ليتصل له الدعاء ، وقد روى أسامة بن زيد قال : لما أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وأتى مزدلفة قلت : يا رسول الله : الصلاة ، فقال : " الصلاة أمامك ، فسار حتى جاء إلى صخر : في بطن المأزم بين الجبلين في مضيق المأزمين فأناخ راحلته ، وبال من وراء الصخرة ، وجئته بإداوة ماء فتوضأ وضوءا غير كامل ، ثم قام فقلت : يا رسول الله الصلاة ، فقال : " الصلاة أمامك إلى أن نزل جمعا " وفي قوله : وضوءا غير كامل تأويلان :

أحدهما : أنه ترك تكراره ثلاثا .

والثاني : أنه ترك مسنوناته من المضمضة والاستنشاق وتخليل الأصابع ، فإذا ثبت هذا فإن كان الإمام مسافرا قصر وجمع ، وإن كان مكيا مقيما أتم وجمع ، كما قلنا بعرفة ، فإذا أراد الجمع بينهما فقد قال أبو حنيفة : يجمع بينهما بإقامة واحدة استدلالا برواية عبد الله بن يزيد عن أبي أيوب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة .

ومذهب الشافعي في القديم أنه يجمع بينهما بأذان وإقامتين ؛ لرواية جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين ، ولم يسبح بينهما ، واضطجع فبات بها إلى أن طلع الفجر .

ومذهبه في الجديد أنه يجمع بينهما بإقامتين من غير أذان لرواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين ، ولم يصل بينهما سجدة ، وكلا الخبرين حجة على أبي حنيفة .

ورواية أبي أيوب أنه جمع بينهما بإقامة يعني لكل واحدة منهما ؛ ليعلم أنه لم يؤذن لهما

فلو صلاهما قبل مزدلفة جامعا بينهما أو مفردا لهما أجزأتاه ولا قضاء عليه ولا فدية ، وقال أبو حنيفة : إن جمع بينهما قبل مزدلفة لم يجزه ، وهو قول جابر بن عبد الله ، وهذا غير صحيح : لأن الجمع بين الظهر والعصر مسنون بعرفة ، كما أن الجمع بين المغرب والعشاء مسنون بمزدلفة ، ثم ثبت أن ترك الجمع بعرفة لا يمنع الإجزاء ، فوجب أن يكون ترك الجمع بمزدلفة لا يمنع الإجزاء ، وتحرير ذلك قياسا أنهما صلاتان سن الجمع بينهما في إحداهما فوجب أن لا يمنع جوازهما ترك الجمع بينهما بمكانهما كالجمع بعرفة ؛ ولأن ما كان وقتا لصلاة الفرض في غير النسك كان وقتا لها في النسك قياسا على سائر الأوقات .

فأما قول الشافعي : " ولا يسبح بينهما " يريد أن لا يتنقل بين صلاتي الجمع ؛ لأن التنقل بينهما يقطع الجمع ، ولا في إثر واحدة منهما أي لا يتنفل قبل المغرب ولا بعد العشاء : لأنه مأمور بالتأهب لمناسكه .

التالي السابق


الخدمات العلمية