الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإن رمى قبل الفجر بعد نصف الليل أجزأ عنه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تعجل الإفاضة وتوافي صلاة الصبح بمكة وكان يومها ، فأحب أن يوافيه صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن تكون رمت إلا قبل الفجر " .

قال الماوردي : أما الرمي الواجب في يوم النحر ، فهو رمي جمرة العقبة وحدها دون غيرها من الجمرات ، ووقت رميها في الاختيار من طلوع الشمس إلى زوالها : لرواية أبي [ ص: 185 ] الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة الأولى ضحى ، فأما وقت رميها في الجواز ، فمن بعد نصف الليل إلى غروب الشمس ، فإن رمى الجمرة قبل نصف الليل لم يجزه ، وإن رمى بعد نصف الليل وقبل الفجر أجزأه .

وقال أبو حنيفة : إن رمى قبل الفجر لم يجزه ، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق .

وقال سفيان الثوري : إن رمى قبل طلوع الشمس لم يجزه ، وبه قال طاوس والنخعي استدلالا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى ضحى ، وقال : خذوا عني مناسككم وبرواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أتانا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن بجمرة أغيلمة بني عبد المطلب ، وحملنا على حمراتنا فلطخ أفخاذنا ، وقال أن لا ترموا إلا بعد طلوع الشمس " قوله لطخ أفخاذنا : أي ضرب أفخاذنا كذا فسره أبو عبيد رحمه الله ، واستدل أبو حنيفة ومن معه بأن قالوا : حكم ما بعد نصف الليل كحكم ما قبله : لكونه وقتا للمبيت بمزدلفة ، فوجب أن يستوي حكمها في المنع مع رمي جمرة العقبة ، وتحرير ذلك قياسا إن رمى بليل ، فوجب أن لا يجزئ ، كما قبل نصف الليل ، قالوا : ولأن الرمي يجب في يوم النحر وأيام منى ، فلما لم يجز رمي أيام منى قبل طلوع الفجر ، لم يجز رمي يوم النحر قبل طلوع الفجر .

وتحرير ذلك قياسا أن رمى قبل طلوع الفجر ، فوجب أن لا يجزئ كأيام منى ، قالوا : ولأنه قد يتعلق بيوم النحر شيئان رمي وذبح ، فلما لم يجز بتقديم الذبح قبل الفجر ، لم يجز تقديم الرمي قبل الفجر .

ودليلنا رواية هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر ، فرمت قبل الفجر ثم أفاضت " .

وروى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أن تأتي منى بليل ، ورمت قبل أن يأتي الناس ، فأذن لها ، وكانت امرأة ثقيلة بطيئة " .

وروى ابن جريح عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر قال : دخلنا مع أسماء من جمع لما غاب القمر وأتينا منى ورمينا وصلت الصبح في دارها ، فقلت يا هنتاه رمينا قبل الفجر ، فقالت : هكذا كنا نفعل أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولأن ما بعد نصف الليل من توابع النهار المستقبل ، فوجب أن يكون حكمه في الرمي حكم النهار المستقبل ، وتحرير ذلك قياسا أنه رمى بعد نصف الليل ، فوجب أن يجزئه ، كالرمي بعد الفجر .

[ ص: 186 ] والجواب عن حديث ابن عباس ورمي النبي صلى الله عليه وسلم إذا عارضته أخبارنا كان محمولا على الاختيار .

وأما قياسهم على ما قبل نصف الليل فالمعنى في النصف الأول أنه من توابع اليوم الماضي ؛ فلذلك لم يجزه والنصف الثاني من توابع اليوم المستقبل ؛ فلذلك أجزأه .

وأما قياسهم على الرمي في أيام منى فغير صحيح ؛ لأنهما مفترقان في الحكم ، لإجماعهم على أن وقت الرمي في أيام منى مخالف للرمي في يوم النحر : لأن الرمي في أيام منى لا يجوز قبل الزوال ، ويجوز في يوم النحر قبل الزوال ؛ فلذلك جاز في يوم النحر قبل الفجر ، وإن لم يجز في أيام منى قبل الفجر .

التالي السابق


الخدمات العلمية